تعزية بوفاة سيدي الشيخ محمد نديم الشهابي رحمه الله
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله الذي يحيي ويميت وهو الحيُّ الذي لا يموت، والحمد لله الذي حفظ هذا الدِّينَ على تعاقُب الأيام والسنين، بما وفَّق إليه أئمةَ العلمِ العاملين.. وأفضلُ الصلاةِ وأكملُ التسليمِ على سيِّدِنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى ورثةِ إمامِ الأنبياءِ والمرسلين، العلماءِ الربَّانيِّين، أئمةِ العلمِ مناراتِ الهدى إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد جاء في الصحيحين عن سيدِنا رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قال: (إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا).
وثبَتَ عن سيِّدنا عبد اللهِ بنِ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قال: موتُ علمائِها وفقهائِها.
هذا وقد ورد أنه إذا مات العالم ثُلِمَ في الإسلام ثُلْمَةٌ؛ كما ورد عن التابعيِّ الجليلِ الحسنِ البصريِّ رحمه الله تعالى: (موتُ العالمِ ثُلْمَةٌ في الإسلامِ لا يَسُدُّها شيءٌ ما اختلفَ الليلُ والنهار).
ونحن إذْ نستقبل بالرِّضا والتسليم نبأَ وفاةِ العالمِ الربَّانيِّ الجليل، سيدي وأستاذي فضيلة الشيخ محمَّد نديم الشهابي رحمه الله تعالى، والذي تلقَّيتُ عنه العلومَ الشرعيةَ في مدرسة العادليَّة، تحت عنايةِ ورعاية وإشرافِ المرشدِ الكبير مربِّي العارفين ودليلِ السالكين بحالِه وقالِه سيدي فضيلةِ الشيخ عبد القادر عيسى رضي الله تعالى عنه ونفعنا به وبسائر العلماءِ العاملينَ وعبادِ الله الصالحين.
وكان أستاذُنا (فضيلة الشيخ محمد نديم رحمه الله تعالى) حينذاك مديراً لهذه المدرسة، مدرسةِ الإحسان في جامع العادليَّة، وكنا نرى فيه العالمَ العاملَ المربِّي، الحازمَ الشفوقَ، المَهيبَ المتواضعَ، يخدمُ ضيوفَه في داره بنفسِه، ويُحضِّرُ لهم أحذيتهم إذا انصرفوا ولو كانوا من طلابه.
واسعُ الثقافة يُخاطبُ ضيوفَهُ وطلابَهُ كُلًّا باختصاصه، ويَنفذُ من خلال ذلك إلى المنهج المطلوب منهجِ السيرِ والسلوكِ إلى ملك الملوك.
ومن لطائف تربيته للطلاب أنَّه كان يصلي صلاة الضحى في فرص الاستراحة بين الدروس، ففي كلِّ فرصة يصلي أربعَ ركعات، ويصلِّيها في المسجد المخصَّصِ لصلاة الأساتذة والطلاب.. ثم ينصرفُ إلى الإدارة ويجلس مع أساتذة المدرسة في غرفة الإدارة، وكان كُلُّ الأساتذة يفعلون ذلك، من دون أن يُلزِموا الطلاب؛ فكان جُلُّ الطلاب ـ إن لم يكن كلُّهم ـ يتوجَّهونَ إلى المسجد في كلِّ فرصة، ليصلُّوا صلاة الضحى.
وكان رحمه الله تعالى حريصاً على متابعة السُّنن النبويَّة في العبادات والعادات.. مجلسُهُ أبعدُ ما يكون عن الغيبة والنميمة، يكرهُ القيلَ والقال.. إذا تكلَّم أحدٌ في مجلسه وذكرَ أحداً من الخَلقِ بما لا يليقُ، قال له: يا سيد! ذِكْرُ الخلقِ داءٌ، وذِكْرُ الخالقِ دَواءٌ.
قرأنا عليه بعد الانتهاء من مرحلة المدرسةِ الشرعية جُملةً من الكتب الإسلامية، ككتابِ (التسهيل لعلوم التنزيل للإمام ابن جُزَي رحمه الله تعالى)، وكتابِ (بهجةِ النفوس وتحلِّيها بمعرفة ما لها وما عليها... شرح مختصر صحيح الإمام البخاري، للإمام ابن أبي جمرة رحمهما الله تعالى)، وكتابِ (شرح جوهرة التوحيد للإمام الصاوي رحمه الله تعالى)، وكتابِ (تيسير البلاغة للشيخ أحمد القلاش رحمه الله تعالى) وغيرِها.
وكان رحمه الله تعالى مدقِّقاً في تقرير المسائل، يسمعُ أثناء الدرس من الجميع، يَقبل الملاحظةَ من أيِّ واحد، وإذا أعجبته كان يصرِّحُ في أكثر الأحيان ويقول: (أفرحْتَني)، وإذا كانت الملاحظةُ غيرَ مقبولة يُقابلها بابتسامةٍ جميلةٍ، ثم يتابع الدرس.
وعندما شرَّفني اللهُ تعالى بزيارة شيخنا العارفِ بالله سيدي الشيخ عبد القادر عيسى في عمَّان في عام 1409هـ ـ 1989م، وأخبرتُه بهذه الدروس، قال لي: بلِّغْ سلامي على الشيخ نديم وقل له يحافظ على هذه الدروس، فلمَّا بلَّغته رحمه الله تعالى دمعتْ عيناهُ ثم قال: كرِّرْ عليَّ ما قال شيخُنا، فكرَّرتُ، فدمعَتْ عيناه، ثم قال: من فضلك كرِّرْ عليَّ ما قال شيخنا، وعيناهُ تفيضانِ بالدمع، ويضعُ كلتا يديه فوقَ عمامته قائلاً: على الرأس والعين..
وفي إحدى زياراته لشيخنا العارفِ بالله سيدي الشيخ أحمد فتح الله جامي رضي الله عنهما، وفي أثناء المجلس قال له شيخُنا رضي الله عنه: يا شيخ نديم ما هو أفضل حالٍ تحبُّ أن تلقى الله عليه؟ قال: يا سيدي أحبُّ أن ألقى الله وأنا حاضر مع الله.. فقال له: إذاً عليك أن تكون حاضراً مع الله تعالى على الدوام، تلقاهُ إن شاء الله وأنت حاضرٌ معه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.. فدمعتْ عيناهُ رحمه الله تعالى، وكان للمجلس هيبةٌ وبهاء، لا سيما في هذه اللحظات.
وها هو رضي الله تعالى عنه ينتقلُ إلى الرفيق الأعلى، وقد دنا عمرُهُ من التسعين، وهو يُتابعُ دروسَه الدينيةَ المسائية، ومجلسَ الصلاةِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ بعد الفجرِ من كلِّ يومِ جمعةٍ في جامع الفتح، ومجلسَ التلاوة والتفسير بعد صلاة الفجر إلى صلاة الضحى من كلِّ يوم في جامع سيدنا عبد الله بن المبارك القريب من داره.
وآخرُ مكالمةٍ شرَّفني الله بها معه يوم الجمعة الماضية (19 صفر 1446هـ) بعد خروجه من مجلس الصلاة على النبيِّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ.. وفي نهاية المكالمة دعا لي، فقلتُ: يا سيدي إني محتاج دائماً لدعائكم، فقال: تدعو لي وأدعو لك، وإني أدعو لك على الدوام، فقلتُ: يا سيدي دعائي لكم من قبيل الواجب عليَّ، ودعاؤكم لي فضل منكم عليَّ، فقال رحمه الله تعالى وهو يبتسم: الفضلُ لله أولاً وآخراً.
سُئلَ رضي الله عنه مرةً في مجلسٍ عامرٍ منذُ أكثرَ من ثلاثين سنة، من قبل أحد الضيوف في غرفة المسجد: ما دواءُ الكسل؟ فقال رضي الله عنه على الفور: النظرُ إلى دُنوِّ الأجل.
نسألُ الله تعالى ونَضرعُ إليه أن يتغمَّدَهُ بالرَّحمة، وأن يُكرمَهُ وأن يُكرمَ الأمَّةَ الإسلاميةَ بسدِّ هذه الثُّلْمة، فإنه جلَّ وعلا هو المتفضِّل على هذه الأمَّة بدوام الخير فيها إلى يوم الدِّين.
وعزاؤُنا لأهله ولأنفسنا وإخوانه وطلابه والمسلمين، راجينَ من الله تعالى أن يجعلَ منهم خيرَ خلفٍ لخير سلفٍ.. إنَّ العينَ تدمعُ، والقلبَ يحزنُ، ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربَّنا، وإنا على فراقك ـ يا شيخَنا الحبيب، وأستاذَنا المَهيب ـ لمَحزونون، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
اللهم اكتبْهُ عندك في المحسنين، واجعلْ كتابه في علِّيين، واخلُفْهُ في أهله في الغابرين، ولا تحرمْنا أجرَهُ، ولا تفتنَّا بعدَهُ، واغفرْ لنا وله برحمتك يا أرحم الرَّاحمين..
إنَّ لله تعالى ما أخذَ وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجلٍ مسمَّى، فلنصبرْ ولنحتسبْ..
ألهمَنا اللهُ تعالى وإياكم عند المصائب صبراً، وأحرَز لنا ولكم بالصبر أجراً..
ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العليِّ العظيم، وهو حسبُنا ونعمَ الوكيل، وصلى الله على سيِّدِنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.
سيدي الشيخ محمد عبد الله رجو حفظه الله
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر حمود ; 08-25-2024 الساعة 05:01 PM