عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - قطرة


المثنوي العربي النوري - ص: 103
الرسالة الرابعة
قطرة
من بحر التوحيد
مفتاح حل هذه الرسالة المستفادة من فيض القرآن
إنما يحصلُ بعد مطالعتها بتمامها مرةً بدقة. 1

_____________________
1 طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطعة "نجم استقبال" باستانبول سنة 1340 هـ (1922م)



المثنوي العربي النوري - ص: 104
افادة المرام
اقرأ بدقة تَقِرَّ عينُك بإذن الله
اعلم!
يا ايها الناظرون!. أنى قد ساقني القدر الآلهي الى طريق عجيب، صادفتُ في سيري فيه مهالك ومصائب واعداء هائلةً. فاضطربتُ، فالتجأت بعجزي الى ربي.. فاخذت العنايةُ الازلية بيدي، وعلّمني القرآنُ رشدي، واغاثتني الرحمة فخلصتني من تلك المهالك. فبحمد الله صرتُ مظفراً في تلك المحاربات مع النفس والشيطان اللذين صارا وكيلين فضوليين لانواع اهل الضلالات..
فاولاً ابتدأت المشاجرةُ بيننا في هذه الكلمات المباركة وهي:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله اكبر، ولاحول ولاقوة الا بالله.. فوقع تحت كلٍ من هذه الحصون الحصينة ثلاثون حرباً. فكلُّ جملة، بل كل قيد في هذه الرسالة نتيجة مظفريةٍ لحرب لم يبق للعدوّ في شئ منها مطمَع وأدنى ممسك.. فما كتبتُ الاّ ما شاهدتُ.. بحيث لم يبق لنقيضه عندي إمكانٌ وهمي. فاُشير بعضاً الى حقيقة طويلة مع دليلها بقيدٍ او صفة اندمج دليلُ الحكم فيهما، يُعرف بالدقة. وما صرّحتُ ليُحسَّ بالمرام من احتياج ٍ ولايشتغلَ مَن لم يحتج فيحتاج.. 1
اظن ان جريان هذا الزمان يلقي العقولَ والقلوبَ في المهالك التي أمَرَّني القدرُ عليها. فهذا الاثرُ يمكن ان يكون نافعاً باذنه تعالى لبعض المصابين. ومن الله التوفيق..
سعيد النورسي

_____________________
1 بمعنى انه سلك مع روح الشريعة التي وضحّها في ص 172 من "اشارات الاعجاز ": "ان الشريعة فسّرت في مواقع اللزوم ومظان الاحتياج ، وفيما لم يلزم او لم يستعد له الاذهان او لم يساعد له الزمان اجملت بفذلكة ووضعت اساسا احالت الاستنباط منه وتفريغه ونشونمائه على مشورة العقل ".



المثنوي العربي النوري - ص: 105
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة على نبيه
فهذا الأثر: على اربعة ابواب وخاتمة ومقدمة.
الـمـقـدمـة
اعلم! اني حصلتُ في اربعين سنة في سفر العمر، وثلاثين سنة في سير العلم: اربع كلمات، واربع جمل. سيجئ تفصيلها. اشير هنا الى الاجمال..
اما الكلمة فهي:
المعنى الحرفي، والمعنى الاسمي، 1 والنية، والنظر.
اعني: ان النظر الى ما سواه تعالى، لابد ان يكون بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وان النظر الى الكائنات بالمعنى الاسمي اي بحساب الاسباب خطأ. ففي كل شئ وجهان: وجهٌ الى الحق، ووجه الى الكون. فالتوجه الى الوجه الكوني لابد ان يكون حرفياً وعنواناً للمعنى الاسمي الذي هو جهة نسبته اليه تعالى. مثلا: لابد أن يُرى النعمةُ مرآةً للانعام، والوسائطُ والاسبابُ مرايا لتصرف القدرة..
وكذا، ان النظر، والنيّة يغيرّان ماهيات الاشياء، فيقلبان السيئات حسناتٍ. كما يقلب الاكسيرُ الترابَ ذهباً، كذلك تقلب النيةُ الحركات العادية عباداتٍ. والنظر يقلب علومَ الاكوان معارفَ إلهية.. فان نُظر بحساب الاسباب والوسائط فجهالات، وان نُظر بحساب الله فمعارف إلهية..

_____________________
1 سيرد شرح هذين المصطلحين في ثنايا الكتاب فالحرف يعرف في النحو: مادلّ على معنى في غيره، اما الاسم فيعرف : مادلّ على معنى في نفسه غير مقترن بزمان.
والمقصود ان النظرة القرآنية الى الموجودات تجعلها بمثابة حروف تعبّر عن معنى تجليات الاسماء الحسنى والصفات الجليلة للخالق العظيم سبحانه.



المثنوي العربي النوري - ص: 106
واما الكلام:
فالاول: "اني لست مالكي" وان مالكي هو مالك الملك ذو الجلال والاكرام... فتَوهَّمْتُني مالكاً 1، لأفهم صفات مالكي بالمقايسة. ففهمت بالمتناهي الموهوم، الغيرَ المتناهي. فجاء الصباح وانطفأ المصباح المتخيل..
الثاني: "الموت حق" فهذه الحياة وهذا البدن، ليسا بقابلين لان يصيرا عمودَين تُبنى عليهما هذه الدنيا العظيمة؛ اذ ما هما بأبديين ولا من حديد ولاحجر بل من لحم ودم وعظم، ومتخالفات توافقوا في ايام قليلة هم على جناح التفرق في كل آن.. فكيف يُبنى بالآمال قصرٌ يسع الدنيا على هذا الاساس الرخو الفاسد والعمود المدَوّد 2 الكاسد..
الثالث: "ربي واحد": كل السعادات لكلِ واحدٍ هو التسليمُ لرب واحد. والاّ لاحتاج الى الارباب المتشاكسين من مجموع الكائنات؛ اذ لجامعية الانسان، له احتياجات الى كل الاشياء، وعلاقات معها، وتألمات وتأثرات، شعورياً وغير شعوري بكل منها، فهذه حالة جهنميّة. فمعرفة الرب الواحد الذي كل هذه الارباب الموهومة حجابٌ رقيق على يد قدرته هي حالة فردوسية دنيوية..
الرابع: ان "انا" نقطة سوداء، وواحد قياسي، التفّ على رأسه خطوط الصنعة الشعورية، تشاهَد فيها ان مالكه اقربُ اليه منه..
سيجي تفصيل هذه الجمل في خاتمة الباب الاول.

_____________________
1 اي : توهمت اني مالك .
2 المنخور.



المثنوي العربي النوري - ص: 107
الباب الاول
فى
لا إله الا الله
بسم الله الرحمــن الرحيم
الحَمدُ لله ربِ العاَلمينَ والصّلاةُ والسّلامُ عَلى سيّد المرسَلين، وعلى آله وصَحبه اجمعين.
أُشهدُ كلَّ شاهدٍ ومشهود بأنّي اشهَدُ انْ لا إلهَ الاّ الله الذي دلّ على وجوب وجوده، ودلّ على اوصاف كماله، وشهد على انه واحد احد فرد صمد:
الشاهدُ الصادق المصدَّق والبرهانُ الناطق المحقَّقُ.. سيدُ الانبياء والمرسلين.. الحاملُ لسر إجماعهم وتصديقهم.. وامامُ الاولياء والعلماء المتقين.. الحاوي لسر اتفاقهم وتحقيقهم.. ذو الآيات الباهرة والمعجزات القاطعة المحققة المصدّقة.. والسجايا السامية والاخلاق العالية المكملة المنزّهة.. مهبط الوحي الرباني.. سيّارُ عالم الغيب والملكوت مُشاهدُ الارواح ومُصاحبُ الملائكة.. مرشد الجن والانس.. انموذج كمال الكائنات بشخصيته المعنوية المشيرة الى انه نصبَ عين فاطر الكون.. ذو الشريعة التي هي انموذج دساتير السعادات، المرمزَة بانها نظام ناظم الكون سيدنا ومهدينا الى الايمان: محمّد بن عبدالله بن عبدالمطلب عليه افضل الصلوات واتم التسليمات.. فانه يشهد عن الغيب في عالم الشهادة على رؤوس الاشهاد بشيراً ونذيراً ومنادياً لأجيال البشر خلف الاعصار والاقطار بأعلى صوته، وبجميع قوته وكمال جديته، وغاية وثوقه ونهاية اطمئنانه وكمال ايمانه بانه:


المثنوي العربي النوري - ص: 108
لا الهَ الاّ الله الذي دل على وجوب وجوده، وصرّح باوصاف جلاله وجماله وكماله، وشهد على وحدانيته:
الفرقانُ الحكيم المتضمن لسرّ اجماع كلّ كتب الانبياء المختلفة الاعصار، وكلّ كتب الاولياء المختلفة المشارب، وكلّ كتب الموحدين المبرهنين المختلفة المسالك. فقد اجمع الكلُّ - اي العقول والقلوب في هؤلاء - على تصديق حُكم القرآن الكريم المنوّر جهاته الست: كلام الله، المحافظ لياقته لهذا الاسم على مر الدهور.. محض الوحي باجماع مهبط الوحي واهل الكشف والالهام.. عين الهداية بالبداهة.. معدن الايمان بالضرورة.. مجمع الحقائق باليقين.. موصلٌ الى السعادة بالعيان.. ذو الثمرات الكاملين بالمشاهدة.. مقبول الملك والانس والجان بالحدس الصادق، المتولد من تفاريق الامارات.. المؤيد بالدلائل العقلية باتفاق العقلاء الكاملين.. المصدّق بشهادة الفطرة السليمة عن الامراض باطمئنان الوجدان.. المعجزة الابدية بالمشاهدة.. لسان الغيب يشهد في عالم الشهادة شهادات مكررة جازمة بـ:
(فاعلم أنه لا إله الاّ الله) 1 الذي دل على وجوب وجوده ودل على اوصاف جلاله وجماله وكماله، وشهد على وحدانيته:
العالمُ، اي هذا الكتاب الكبير بجميع ابوابه وفصوله وصُحفه وسطوره وجُمله وحروفه، وهذا الانسان الكبير بجميع اعضائه وجوارحه وحجيراته وذراته واوصافه واحواله. اي هذه الكائنات بجميع انواع العوالم تقول: لا إله الاّ الله.. وبأركان تلك العوالم: لاَ خالِق الاّ هو.. وباعضاء تلك الاركان: لاصانع الاّ هو.. وباجزاء تلك الاعضاء، لامدبّر الاّ هو.. وبجزئيات تلك الاجزاء: لامُربّيَ الاّ هو.. وبحجيرات تلك الجزئيات: لامتصرف الاّ هو.. وبذرات تلك الحجيرات: لا خالِقَ الاّ هو.. وبأثير تلك الذرات: لا إله الاّ هو.. فتشهد الكائنات على انه هو الواجب الوجود الواحد الاحد بجميع انواعها واركانها واعضائها واجزائها وجزئياتها وحجيراتها وذراتها واثيرها، افراداً وتركيباً متصاعداً بتركيبات منتظمة رافعاتٍ اعلامَ الشهادة على وجوب وجود الصانع الازلي.. ومتنازلاً بنقوش غريبة، شاهدات على وجوب وجود النقاش الازلي.. والكائنات كل واحد من مركباتها واجزائها تشهد بخمس وخمسين لساناً بانه واجب الوجود الواحد الاحد..

_____________________
1 محمد : 19



المثنوي العربي النوري - ص: 109
سيجئ تفصيل تلك الالسنة. اما إجمالها فهي:
تنادي بألسنة افرادها وتركيباتها المنتظمة.. وفقرها وحاجاتها المقضية.. واحوالها المنتظمة.. وصورها المكملة العجيبة اللائقة.. ونقوشها المزينة الغريبة الفائقة.. وحِكَمها العالية.. وفوائدها الغالية.. وبتخالفاتها الخارقة المتلاحظة.. وتماثلاتها المنتظمة المتناظرة.. وبألسنة نظامها وموازنتها جزءاً وكلاً.. وبانتظامها واطرادها.. وباتقان الصنعة الشعورية وكمالها في كل شئ.. وبتجاوب المتخالفات الجامدات بعضٌ لحاجة بعض.. وتساند المتباعدات المتفاوتات.. وبلسان الحكمة العامة.. والعناية التامة.. والرحمة الواسعة.. والرزق العام.. والحياة المنتشرة.. وبلسان الحُسن والتحسين.. والجمال المنعكس الحزين.. والعشق الصادق.. والانجذاب والجذبة.. وظليّة الاكوان.. وبلسان التصرف لمصالح.. والتبديل لفوائد.. والتحويل لحِكَم.. والتغيير لغايات.. والتنظيم لكمالات.. وبألسنة إمكانها وحدوثها.. واحتياجاتها وافتقاراتها.. وفقرها.. وضعفها.. وموتها.. وجهلها.. وفنائها.. وتغيرها.. وعباداتها.. وتسبيحاتها.. ودعواتها.. والتجاآتها..
فالكائنات - مركباتها واجزاؤها - بكل هذه الألسنة شاهدات على وجوب وجود خالقها القديم القدير.. ودالات على اوصاف كماله - كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز - شاهدات على وحدانيته تعالى.. وذاكرات تاليات لاسمائه الحسنى.. ومسبّحات بحمده تعالى.. ومفسّرات لآيات القرآن الحكيم.. ومصدقات لاخبارات سيد المرسلين.. ومولّدات لحدس صادق منظّم 1 الى نور الاسلام، المنظم الى التسليم لطور النبوة، المنظّم لنور الايمان بواجب الوجود الواحد الاحد. فإجماع الكائنات بكل ألسنتها تحت أمر الكلام القديم، ورياسة سيد الانام والمرسلين.. قائلات ناطقات:
(الله لا إله الاّ هُو الحيّ القيّوم) 2.
فاستمع تفصيل هذه الفقرات المذكورة: 3

_____________________
1 نظّم الشئ الى الشئ : ضمه والّفه.
2 البقرة : 255
3 وضعنا ارقاماً امام الفقرات تسهيلاً للقارئ الكريم.



المثنوي العربي النوري - ص: 110
(1،2) اذ ما يتراءى ويتظاهر في الكائنات مجموعاً واجزاءاً من نوع "التنظيمات" المتلاحظة والنظامات المتناظرة و"الموازنات" المتساندة، الدالة على وجوب وجود مَن هذه الكائنات في تصرف قبضَتي "نظامه وميزانه" والشاهدة بالتلاحظ والتناظر والتساند على ان المقنن والاستاذ والنظّام واحد.. يفتحان مَنفذاً نظاراً الى المطلوب: اي وجوب الوجود والوحدة، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: الله لا اله الاّ هُو..
(3، 4) وان ما في بيت الكائنات من "الانتظام والاطراد" الدالين على عدم تداخل الايدي المتعددة، وان الصنعة والنقش والمُلك لواحد.. يفتحان كوةً نظارةً بطرز آخر ايضاً، تشهد الكائنات فيها بهذا اللسان: الله لا اله الاّ هو..
(5، 6) وان "اتقان الصنعة الشعورية، وكمالها" في كل شئ بما تسعه لياقة قابليته المجعولة بقلم القَدَر من يد الفياض المطلق الدالّين على اتحاد القلم، وان كاتب صحيفة السماء بنجومها وشموسها هو كاتب صحيفة النحل والنمل بحجيراتها وذراتها.. يفتحان مشكاة نظارة بطور آخر ايضاً، تشهد الكائنات فيها بلسان كل مصنوع منادية: الله لا اله الاّ هو..
(7، 8) وان "تجاوب الاشياء المتخالفة" الجامدة في الطرق الطويلة المعوجة، بعضٌ لحاجة بعض؛ كمادة غذاء الحجيرات والثمرات "وتساند الاشياء المتباعدة المتفاوتة" كالسيارات التي هي ثمرات الشمس، الدال ذلك التجاوب والتساند على ان الكل خُدام سيدٍ واحد، وتحت أمر مدبّر واحد، ومرجعهم مربٍ واحد.. يفتحان منفذاً نظاراً ايضاً بمرتبة اخرى، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: الله لا إله الاّ هو..
(9،10) وان "تشابه الآثار" المنتظمة المتناظرة، كنجوم السموات، "وتناسب الآثار المتلاحظة" كأزاهير الارضين، الدالّين على ان الكل مالُ مالك واحد، وتحت تصرّف متصرف واحد، ومصدرهم قدرةُ واحدٍ.. يفتحان منفذاً نظاراً ايضاً، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: الله لا إله الاّ هو..
(11) وان "مظهرية كل حي لتجليات اسماءٍ كثيرة شعورية" مختلفة الآثار والجمال، المتساندة في التأثير، والمتشابهة المتشاركة حتى في حجيرة واحدة،


المثنوي العربي النوري - ص: 111
والمتعاكسة كلٌ في كلٍ، والمتمازجة كالالوان السبعة في ضياء الشمس الدالة هذه الاحوال مع وحدة اثرها، على ان مسماها واحد، تدل بالضرورة على ان خالقَ الحيّ هو بارئهُ، ومصوّره، والمنعم عليه، ورزاقه، وأن رزاقه هو خالقُ منابع الرزق، وخالقُها هو الحاكم على الكل.. فتفتح هذه الحقيقة منفذاً نظاراً ايضاً الى مرتبة الوجوب والوحدة، تشهد الكائنات فيه بلسان كل حي: الله لا إله الاّ هو..
(12،13) وان "ارتباط" امثال عين النحل والنمل ومعدتهما بالشمس ومنظومتها، مع "المناسبة" في الجزالة الكيفية والتلاحظ والتناظر، الدال ذلك الارتباط والمناسبة على انهما: كلاهما نقشا نقاش واحد.. فيفتحان منفذاً نظاراً ايضاً، تشهد الكائنات فيه منادية: الله لا إله إلاّ هو..
(14) وان "اخوة الجاذبة" المكتوبة المنسوجة المنقوشة بين الذرات والجواهر الفردة "للجاذبة العمومية" المكتوبة المنسوجة الممددة بين النجوم والشموس، الدالة على انهما: كلاهما كتابةُ قلمِ واحدٍ ومدادِه ونَسجا نسّاج واحدٍ وأسدائه، وشعاعا شمس واحدٍ وفيضِه.. تفتح مرصاداً نظاراً ايضاً الى الوجوب والوحدة، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان الدقيق والعلوي: الله لا إله إلاّ هُو..
u (15) وان "نِسَب كلّ ذرةٍ في المركبات" المتداخلة المنتظمة الموظفة، تلك الذرة كالنفر في كل نسبة له وظيفة لفائدة، كذرة العين في مركبات الاعصاب المحركة والحساسة والاوردة والشرايين والباصرة. فتدل بالضرورة على ان خالق عين العين والعين، وعين العالم - اي الشمس - وواضعها موضعَها اللائق، هو خالق كل المركبات.. فتفتح هذه الحقيقة ايضاً مشكاة نظارة، تشهد الكائنات فيها بلسان كل ذرة من ذراتها: الله لا إله إلاّ هُو..
(16) وان "وُسعَة تصرف القدرة في النوع الواحد" الذي لا يصدر الاّ عن الواحد بالبداهة، مع شمول بعض الانواع اكثر الكائنات - كالحيات والملَك والسمك - يُتحدس منه بأن خالق الفرد هو خالقُ النوع، مثلاً: ان القلم الذي رسم تشخّص وجه زيد، لابد بالضرورة ان يكون كل افراد البشر منظوراً له دفعةً، لمخالفة تعينه لكل فرد، والاّ لوقع التوافق بالتصادف! وخالقُ النوع بهذا السرّ هو خالق الاجناس.. فتفتح هذه الحقيقة ايضاً منفذاً نظاراً، تشهد الكائنات فيه: الله لا إله إلاّ هُو..


المثنوي العربي النوري - ص: 112
(17) وان "ما يتوهم بقصور النظر من الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة" المنجرة الى الاستنكار في اسناد كل شئ الى الواجب الوجود الواحد الاحد. فتلك الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة والمعالجات تنقلب حقيقية عند عدم الاسناد الى صاحب مرتبة الوجوب والوحدة، 1 بل تتضاعف تلك الامور عند اسناد الآثار الى جانب الامكان والكثرة والاسباب وانفسِها، عددَ اجزاء الكائنات.. فما يتوهم في اسناد الكل الى الواجب يتحقق في اسناد جزء واحد الى غيره تعالى. بل الاولُ اسهل وايسر؛ اذ صدور الكثير عن الواحد اقل كلفة من صدور الواحد عن الكثير المتشاكسين العُمي الذين اجتماعهم يُزيدهم عمىً؛ اذ النحلة لو لم تخرج من يد قدرة الواجب، لزم اشتراك ما في الارض والسموات في وجودها!.. بل تترقى الكلفة والمعالجة في الجزء الواحد من الذرة بالنسبة الى الوجوب الى امثال الجبال، ومن الشعرة الى امثال الحبال، لو احيل على الاسباب.. اذ الواحد بالفعل الواحد يحصّل وضعية ومصلحة للكثير، لايصل الى عين تلك الوضعية والنتيجة الكثيرُ، الاّ بفعل كثير؛ كالامير بالنسبة الى نفراته، والفوّارة الى قطراتها، والمركز الى نقاط دائرته. فبفعل واحدٍ تصل هذه الثلاثة الى تحصيل وضعيةٍ للكثير، 2 ونتيجةٍ لاتصل النفرات والقطرات والنقاط لو احيلت عليها الاّ بافعال كثيرة وتكلفات عظيمة. بل الاستغراب والاستبعاد الموهومان في طرف الوجوب، ينقلبان هنا الى محالات متسلسلة.
من بعض المحالات: فرض صفات الواجب في كل ذرة بضرورة اقتضاء النقش الكامل والصنعة المتقنة.. وكذا، توهم شركاء غير متناهية في الوجوب الذي لايقبل الشركة اصلاً.. وكذا، فرض كل ذرة حاكماً على الكل ومحكوماً لكلٍ من المجموع، وللكلِ معا، بضرورة اقتضاء النظام والانتظام.. وكذا، فرض شعورٍ محيط، وعلمٍ تام في كل ذرةٍ، بضرورة اقتضاء التساند والموازنة. فاسناد الاشياء الى الاسباب في جانب الامكان والكثرة يستلزم التزامَ هذه المحالات المتسلسلة، والممتنعات العقلية، والاباطيل التي تمجّها الاوهام..

_____________________
1 تفصيله في "حباب" ص 184 - 188
2 سيرد شرح هذا المثال في ذيل الحباب ص 208



المثنوي العربي النوري - ص: 113
واما اذا اسند الى صاحبها الحقيقي، وهو صاحب مرتبة الوجوب والوحدة، لايلزم الا ان تكون الذرة ومركباتها - كقطرات المطر المتشمسة المتلمعة بتماثيل الشمس - مظاهرَ للمعاتِ تجليات القدرة النورانية الازلية الغير المتناهية المتضمنة للعلم والارادة الازليين الغير المتناهيين، فلمعتُها المالكة لخاصيتها، اجلّ من شمس الاسباب تأثيراً بسبب التجزؤ والانقسام في جانب الامكان والكثرة دون الوجوب والوحدة. فالتّماس مع تلك القدرة في اقل من ذرة اكبر تأثيراً من امثال الجبال في جانب الكثرة، بسبب ان جزء النوراني مالكٌ لخاصية الكل، كأن الكلّ كلي، والجزءَ جزئيٌ ولو كان النور ممكناً، فكيف بنور الانوار المتنور من جانب الوجوب؟ 1.. وكذا لاكلفة ولامعالجة بالنسبة الى تلك القدرة؛ اذ هي ذاتية للذات 2 محالٌ تداخل ضدها فيها، فتتساوى بالنسبة الى لمعتها الذراتُ والشموس والجزء والكل والفرد والنوع، بسر الشفافية والمقابلة والموازنة والتجرد والاطاعة والانتظام 3 بل بالحدس والمشاهدة، اذ تلك القدرة تفعل بامثالِ الخيوط الدقيقة الجامدة امثال العناقيد، تلك الخوارق الحيوية.. لو احيلت على الاسباب؛ لاحتيج لتصنيع عنقود واحد - لو امكن - الى ملايين قنطارٍ من تلك الكلفة والمعالجات!.. وكذا ان تلك القدرة تتجلى بجلوات الوجود المنعكس من ظل الوجوب في سم الخياط، على صفحات الشفافات بالتماثيل البرزخية.. لو احيلت على الاسباب لامتنعت او احتيجت الى ما لايحد من المعالجات.
اعلم! ان الحياة والوجود والنور - لشفافية وجهَي المُلك والملكوت فيها ما استتُرت القدرةُ عند ايجادها تحت الوسائط الكثيفة، فيترقق السببُ الظاهري فيها بحيث يتراءى تحتَه تصرفُ القدرة. فمن امعن النظر في اطوار الحياة والانوار، يشاهد تصرفات القدرة تحت الاسباب؛ اذ تلك القدرة لاتصرّف لتصنيع عنقودِ العنب، الاّ غصناً دقيقاً جامداً، ولترسيم شُميسة في زجيجة، الاّ إمرار النور في سمّ الخياط، ولتنوير البيت الا توسيط شعرة في زجاجة.

_____________________
1 اي: لو كان النور من جانب الامكان هذا فعله فكيف بنور الانوار...
2 للذات الالهية.
3 هذه الاسرار الستة مذكورة بالتفصيل في "ذيل الكلمة العاشرة" وفي "الكلمة التاسعة والعشرين".

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس