الموضوع: إشارات الإعجاز
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-19-2011
  #18
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,217
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: إشارات الإعجاز


إشارات الإعجاز - ص: 170
فيا هذا! من لم يُدخل في عقله هذه النقطة نُدْخِل جزيرةَ العرب في عينه. فهذه جزيرة بعد ثلاثة عشر عصراً وبعد ترقي البشر في مدارج التمدن!.. فانتخِب ايها المعاند من أكمل الفلاسفة مائة، فليسعوا مائة سنة فان فعلوا جزءاً من مائة جزء مما فعله محمّد العربي عليه الصلاة والسلام بالنسبة الى زمانه 1... فان لم تفعل - ولن تفعل - فاتّق عاقبة العناد! نعم، هذه الحالة خارقة للعادة وان هي الاّ معجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام.
واعلم أيضاً: ان من اراد التوفيق يلزم عليه ان يكون له مصافاة مع عادات الله، ومعارَفَة مع قوانين الفطرة، ومناسبة مع روابط الهيئة الاجتماعية. والاّ، أجابته الفطرة بعدم الموفَّقية جوابَ إسكات..
وأيضاً مَن تحرك بمسلك في الهيئة الاجتماعية يلزمه ان لا يخالف حركة الجريان العموميّ. والاّ، طيّره ذلك الدولاب عن ظهره فيسقط في يده. فاذاً من ساعده التوفيق في ذلك الجريان كمحمّد عليه السلام يثبت انه متمسك بالحق.
فاذا تفهمت هذا، تأمل في حقائق الشريعة مع تلك المصادمات العظيمة والانقلابات العجيبة، وفي هذه الأعصار المديدة تَرَها قد حافظت على موازنة قوانين الفطرة وروابط الاجتماعيات اللاتي بدقتها لا تتراءى للعقول مع كمال المناسبة والمصافاة معها. فكلما امتد الزمان تظاهر الاتصال بينها. ويتظاهر من هذه الحالة؛ ان الاسلامية هي الدين الفطريّ لنوع البشر وانها حق، لهذا لاينقطع ان رقّ. ألا ترى ان الترياق الشافي للسموم القاتلة في الهيئة الاجتماعية انما هو أمثال "حرمة الربا ووجوب الزكاة" اللتين هما مسألتان في ألوف مسائل تلك الشريعة.
فاذا عرفت هذه النكت الأربع مع هذه النقط الثلاث، اعلم! ان محمداً الهاشميّ عليه الصلاة والسلام مع انه امّيّ لم يقرأ ولم يكتب، ومع عدم قوته الظاهرية وعدم حاكميته له أو لسلفه، وعدم ميل تحكم وسلطنة، قد تشبث بقلبه بوثوق واطمئنان في موقع في غاية الخطر وفي مقام مهم، بأمر عظيم فغلب على الأفكار، وتحبب الى الأرواح، وتسلط على الطبائع، وقلع من أعماق قلوبهم العادات والأخلاق الوحشية المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة. ثم غرس في موضعها في غاية الإِحكام والقوة -

_____________________
1 وجواب إن محذوف، اى فاطلب ماتشاء (ش)

إشارات الإعجاز - ص: 171
كأنها اختلطت بلحمهم ودمهم - أخلاقا عالية وعادات حسنة، وقد بدل قساوة قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة بحسيات رقيقة وأظهر جوهر انسانيتهم. ثم أخرجهم من زاوية الوحشة وَرقي بهم الى اوج المَدَنية وصيّرهم معلِّمي عالَمهم، وأسَّس لهم دولةً ابتلعت الدول كعصا موسى فلما ظهرت صارت كالشعلة الجوّالة والنور النّوار فاحرقت روابط الظلم والفساد، وجعل سرير تلك الدولة الدفعية في زمان قليل الشرقَ والغربَ. أفلا تدل هذه الحالة على ان مسلكه حقيقة وانه صادق في دعواه؟
المسألة السادسة:
في صحيفة المستقبل لاسيما "مسألة الشريعة". ولابد من ملاحظة أربع نكت في هذه المسألة:
احداها: ان شخصاً ولو خارقاً انما يتخصص ويصير صاحب ملَكة في أربعة فنون او خمسة فقط.
النكتة الثانية: إن كلاماً واحداً قد يتفاوت بصدوره عن متكلمين، فكما يدل على سطحية أحد وجهله.. يدل على ماهرية الآخر وحذاقته مع ان الكلام هو الكلام؛ اذ احدهما لما نظر الى المبدأ والمنتهى، ولاحظ السياق والسباق، واستحضر مناسبته مع أخواته، ورأى موضعاً مناسبا فأحسن الاستعمال فيه، وتحرى أرضا منبتة فزرعه فيها؛ ظهر منه انه خارق وصاحب ملكة فيما هذا الكلام منه. وكل فذلكات القرآن الكريم من الفنون وملتقطاته انما هي من هذا القبيل.
النكتة الثالثة: هي ان كثيراً من الامور العادية الآن - بسبب تكمل المبادئ والوسائط حتى يلعب بها الصبيان - لو كانت قبل هذا بعصرين لعدّت من الخوارق. فما يحافظ شبابيته وطراوته وغرابته على هذه الاعصار المديدة يكون البتة من خوارق العادات والعادات الخارقة.
النكتة الرابعة: هي ان الارشاد انما يكون نافعا اذا كان على درجة استعداد أفكار الجمهور الأكثر. والجمهور - باعتبار المعظم - عوام. والعوام لا يقتدرون على رؤية الحقيقة عريانةً ولا يستأنسون بها الا بلباس خيالهم المألوف. فلهذه النكتة صوّر القرآنُ
إشارات الإعجاز - ص: 172
الكريم تلك الحقائق بمتشابهات وتشبيهات واستعارات وحفظ الجمهور الذين لم يتكملوا عن الوقوع في ورطة المغلطة. فأبْهَمَ وأهمَلَ في المسائل التي يعتقد الجمهورُ - بالحس الظاهريّ - خلاف الواقع ضروريا، لكن مع ذلك أومأ الى الحقيقة بنصب امارات.
فاذا تفطنت لهذه النكت، اعلم! ان الديانة والشريعة الاسلامية المؤسسة على البرهان العقليّ ملخصة من علوم وفنون تضمنت العقد الحياتية في جميع العلوم الأساسية: من فن تهذيب الروح، وعلم رياضة القلب، وعلم تربية الوجدان، وفنّ تدبير الجسد، وعلم تدوير المنزل، وفن سياسة المدنية، وعلم نظامات العالم، وفن الحقوق، وعلم المعاملات، وفن الآداب الاجتماعية، وكذا وكذا وكذا... الخ. مع ان الشريعة فسّرت وأوضحت في مواقع اللزوم ومظان الاحتياج، وفيما لم يلزم او لم يستعد له الاذهانُ او لم يساعد له الزمانُ اجملتْ بفذلكة ووضعت أساسا احالت الاستنباط منه وتفريعه ونشو نمائه على مشورة العقول. والحال ان كل هذه الفنون بل ثلثها بعد ثلاثة عشر عصرا - مع انبساط تلاحق الأفكار وتوسع نتائجها، وكذا في المواقع المتمدنة، وكذا في الأذكياء - لايوجد في شخص. فمن زيّن وجدانه بالانصاف يصدق بان حقيقة هذه الشريعة خارجة عن طاقة البشر دائما لاسيما في ذلك الزمان، ويصدّق بمآل (لم تفعلوا ولن تفعلوا).
"والفضل ما شهدت به الاعداء": فهذا "قارلائيل" 1 فيلسوف امريكا نقل عن الأديب الشهير الالماني وهو "كوته" 2 اذ قال بعد ما أمعن النظر في حقائق القرآن الكريم عجبا أيمكن تكمّل العالم المدني في دائرة الاسلامية؟ فأجاب بنفسه: نعم! بل

_____________________
1 توماس كارلايل (1795 - 1881) كاتب ومؤرخ وفيلسوف انكليزي، اراد والده البنّاء ان يكون إبنه قسيساً إلاّ ان كثرة شكوكه حول الدين حالت دون ذلك، مرّ بمعاناة نفسية دامت زهاء سبع سنوات، انتهى به المطاف بالاستقرار على مسائل الايمان. ألقى سلسلة من المحاضرات، تناول في احداها عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليه وبيّن انه النبي الحق ودحض افتراءات كثيرة. جمع تلك المحاضرات في كتابه المشهور «الابطال». اوصى بتوزيع ثرواته الى الطلاب الفقراء، وايداع مكتبته في جامعة هارفرد الامريكية. ترك آثاراً عميقة في ثقافة الانكليز ونظرتهم الى العالم(باختصارمن YENI LUGAT عن دائرة المعارف التركية).
2 جوهان فولف جانج فون (1749 - 1832) كاتب وشاعر وروائى وناقد ألماني. ولد في اسرة ثرية وتعلم اللاتينية واليونانية والايطالية والانكليزية والعبرية وحصل الفرنسية عام 1، ثم انتقل الى مدينة ليبزنج لتعلم الحقوق ثم انصرف الى التأليف ثم تولى مناصب قضائية وادارية ووضع خلال ذلك مسرحيات وكتباً تناول فيها تأملاته في الحياة.

إشارات الإعجاز - ص: 173
المحققون الآن مستفيدون بجهة من تلك الدائرة. ثم قال الناقل: لما طلعت حقائق القرآن الكريم صارت كالنار الجوّالة وابتعلت سائر الاديان، فحُقَّ له؛ اذ لايحصل شئ من سفسطيات النصارى وخرافات اليهود. فصدّق ذلك الفيلسوف مآل (فأتوا بسورة من مثله.. فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار).
فان قلت: ان القرآن الكريم وكذا مفسِّره - أعني الحديث - انما اخذ من كل فن فذلكة، واحاطةَ فذلكاتٍ كثيرة ممكنة لشخص.
قيل لك: ان الفذلكة بحسن الاصابة في موقعها المناسب، واستعمالها في أرض منبتة مع أمور مرموزة غير مسموعة - قد اشرنا اليها في النكتة الثانية - تشفّ كالزجاجة عن ملكة تامة في ذلك الفن واطلاع تام في ذلك العلم فتكون الفذلكة في حكم العلم ولا يمكن لشخص أمثال هذه.
اعلم! ان نتيجة هذه المحاكمات هي ان تستحضر اوّلا ما سيأتي من القواعد وهي:
ان شخصاً لايتخصص في فنون كثيرة.. وان كلاما واحداً يتفاوت من شخصين، يكون بالنظر الى واحد ذهباً والى الآخر فحماً.. وان الفنون نتيجة تلاحق الأفكار وتتكمل بمرور الزمان.. وان كثيراً من النظريات في الماضي صارت بديهية الآن.. وان قياس الماضي على هذا الزمان قياس مثبط مع الفارق.. وان أهل الصحراء لاتستر بساطتهم وصفوتهم الحيل والدسائس التي تختفي تحت حجاب المدنية.. وان كثيراً من العلوم انما يتحصل بتلقين العادات والوقوعات وبتدريس الأحوال لطبيعة البشر باعداد الزمان والمحيط.. وان نور نظر البشر لاينفذ في المستقبل ولا يرى الكيفيات المخصوصة.. وانه كما ان لحياة البشر عمراً طبيعياً ينقطع؛ كذلك لقانونه عمر طبيعيّ ينتهي البتة.. وان للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في أحوال النفوس.. وان كثيراً من الخوارق الماضية تصير عادية بتكمل المبادئ.. وان الذكاء ولو كان خارقاً لا يقتدر على ايجاد فنٍ وتكميله دفعةً بل كالصبيّ يتدرج.
واذا استحضرت هذه المسائل وجعلتها نصب عينيك فتجرَّد وتعرَّ من الخيالات الزمانية والأوهام المحيطية، ثم غُصْ من ساحل هذا العصر في بحر الزمان، ماراً تحته الى ان تخرج من جزيرة عصر السعادة ناظراً على جزيرة العرب!.. ثم ارفع رأسك والبس
إشارات الإعجاز - ص: 174
ما خاط لك ذلك الزمان من الأفكار، ثم انظر في تلك الصحراء الوسيعة!. فأول ما يتجلى لعينك: انك ترى انسانا وحيدا لا معين له ولا سلطنة يبارز الدنيا برأسه.. ويهجم على العموم.. وحمل على كاهله حقيقة اجلّ من كرة الارض.. وأخذ بيده شريعة هي كافلة لسعادة الناس كافة.. وتلك الشريعة كأنها زبدة وخلاصة من جميع العلوم الالهية والفنون الحقيقية.. وتلك الشريعة ذات حياة لا كاللباس بل كالجلد، تتوسع بنموّ استعداد البشر وتثمر سعادة الدارين، وتنظم أحوال نوع الانسان كأهل مجلس واحد. فإن سُئلتْ قوانينُها من اين الى اين؟ لقالت بلسان اعجازها: نجئ من الكلام الأزليّ ونرافق فكر البشر الى الأبد، فبعد قطع هذه الدنيا نفارق صورةً من جهة التكليف ولكن نرافق دائما بمعنوياتنا واسرارنا فنغذي روحهم ونصير دليلهم.. فيا هذا أفلا يتلو عليك ما شاهدت الأمرَ التعجيزيَّ في (فأتوا بسورة من مثله.. فان لم تفعلوا ولن تفعلوا)..الخ.
ثم اعلم ان آية (وان كنتم في ريب مما نزلنا)...الخ: تشير الى ان ناساً - بسبب الغفلة عن مقصود الشارع في ارشاد الجمهور وجهلهم بلزوم كون الارشاد بنسبة استعداد الأفكار - وقعوا في شكوك وريوب منبعها ثلاثة امور:
احدها: انهم يقولون: وجود المتشابهات والمشكلات في القرآن الكريم منافٍ لإعجازه المؤسس على البلاغة المبنية على ظهور البيان ووضوحِ الافادة.
والثاني: انهم يقولون: ان القرآن الكريم اطلق وأبهمَ في حقائق الخِلقة وفنون الكائنات مع انه مناف لمسلك التعليم والارشاد.
والثالث: انهم يقولون: ان بعض ظواهر القرآن الكريم اميل الى خلاف الدليل العقلي فيحتمل خلاف الواقع وهو مخالف لصدقه.
الجواب - وبالله التوفيق - ايها المشككون اعلموا!. ان ما تتصورونه سبباً للنقص انما هو شواهد صدق على سر اعجاز القرآن الكريم.
أما الجواب عن الريب الأول وهو وجود المتشابهات والمشكلات:
فاعلم! ان ارشاد القرآن الكريم لكافة الناس، والجمهور الأكثر منهم عوام، والأقل تابع للأكثر في نظر الارشاد. والخطاب المتوجه نحو العوام يستفيد منه الخواص
إشارات الإعجاز - ص: 175
ويأخذون حصتهم منه.. ولو عكس لبقي العوام محرومين، مع ان جمهور العوام لا يجردون اذهانهم عن المألوفات والمتخيلات، فلا يقتدرون على درك الحقائق المجردة والمعقولات الصرفة الاّ بمنظار متخيلاتهم وتصويرها بصورة مألوفاتهم. لكن بشرط ان لايقف نظرُهم على نفس الصورة حتى يلزم المحال والجسمية او الجهة بل يمر نظرهم الى الحقائق.
مثلا: ان الجمهور انما يتصورون حقيقة التصرف الالهي في الكائنات بصورة تصرف السلطان الذي استوى على سرير سلطنته. ولهذا اختار الكناية في (الرحمن على العرش استوى) 1 واذا كانت حسيات الجمهور في هذا المركز فالذي يقتضيه منهجُ البلاغة ويستلزمه طريقُ الارشاد رعايةَ افهامهم واحترامَ حسياتهم، ومماشاة عقولهم ومراعاة أفكارهم. كمن يتكلم مع صبي فهو يتصبى في كلامه ليفهمه ويستأنس به. فالأساليب القرآنية في أمثال هذه المنازل المرعي فيها الجمهور تسمى بـ"التنزلات الإِلهية الى عقول البشر"، فهذا التنزل لتأنيس اذهانهم. فلهذا وضع صورَ المتشابهات منظاراً على نظر الجمهور. ألا ترى كيف أكثر البلغاء من الاستعارات لتصور المعاني الدقيقة، أو لتصوير المعاني المتفرقة! فما هذه المتشابهات الا من أقسام الاستعارات الغامضة، اذ انها صور للحقائق الغامضة.
أما كون العبارة مُشكلاً؛ فإما لدقة المعنى وعمقه، وايجاز الاسلوب وعلويته، فمشكلات القرآن الكريم من هذا القبيل.. وإما لإِغلاق اللفظ وتعقيد العبارة المنافي للبلاغة، فالقرآن الكريم مبرأ منه. فيا أيها المرتاب! أفلا يكون من عين البلاغة تقريب مثل هذه الحقائق العميقة البعيدة عن أفكار الجمهور الى أفهام العوام بطريق سهل؟ اذ البلاغة مطابقة مقتضى الحال فتأمل..
أما الجواب عن الريب الثاني، وهو ابهام القرآن في بحث تشكل الخلقة على ما شرحته الفنون الجديدة:
فاعلم! ان في شجرة العالم ميلَ الاستكمال، وتشعَّبَ منه في الانسان ميلُ الترقي، وميل الترقي كالنواة يحصل نشوّه ونماءه بواسطة التجارب الكثيرة، ويتشكل ويتوسع بواسطة تلاحق نتائج الأفكار؛ فيثمر فنوناً مترتبة بحيث لا ينعقد المتأخر الاّ بعد

_____________________
1 سورة طه: 5

إشارات الإعجاز - ص: 176
تشكل المتقدم، ولا يكون المتقدم مقدمة للمؤخر الا بعد صيرورته كالعلوم المتعارفة. فبناء على هذا السر لو أراد أحد تعليم فنٍ أو تفهيم علمٍ - وهو انما تولد بتجارب كثيرة - ودعا الناس اليه قبل هذا بعشرة أعصر لا يفيد الاّ تشويش اذهان الجمهور، ووقوع الناس في السفسطة والمغلطة.
مثلا: لو قال القرآن الكريم" ايها الناس انظروا الى سكون الشمس 1 وحركة الأرض واجتماع مليون حيوان في قطرة، لتتصوروا عظمة الصانع" لأَوْقع الجمهورَ إما في التكذيب واما في المغالطة مع أنفسهم والمكابرة معها بسبب ان حسهم الظاهريّ - أو غلط الحس - يرى سطحية الأرض ودوران الشمس من البديهيات المشاهَدة. والحال ان تشويش الاذهان - لا سيما في مقدار عشرة أعصر لتشهِّي بعض أهل زماننا - منافٍ لمنهاج الارشاد وروح البلاغة.
يا هذا! لا تظنن قياس أمثالها على النظريات المستقبلة من أحوال الآخرة 2.. اذ الحس الظاهري لما لم يتعلق بجهة منها بقيت في درجة الامكان فيمكن الاعتقاد والاطمئنان بها فحقها الصريح التصريح بها. لكن ما نحن فيه لما خرج من درجة الامكان والاحتمال في نظرهم - بحكم غلط الحس - الى درجة البداهة عندهم فحقه في نظر البلاغة الابهام والاطلاق احتراما لحسياتهم وحفظاً لاذهانهم من التشويش. ولكن مع ذلك اشار القرآن الكريم ورمز ولوّح الى الحقيقة، وفتح الباب للأفكار ودعاها للدخول بنصب امارات وقرائن. فيا هذا ! ان كنت من المنصفين اذا تأملت في دستور "كلِّم الناس على قدر عقولهم" ورأيت ان أفكار الجمهور لعدم اعداد الزمان والمحيط لا تتحمل ولاتهضم التكليف بمثل هذه الأمور - التي انما تتولد بنتائج تلاحق الأفكار - لعرفت ان ما اختاره القرآن الكريم من الابهام والاطلاق من محض البلاغة ومن دلائل اعجازه.
اما الجواب عن الريب الثالث، وهو امالة بعض ظواهر الآيات الى منافي الدلائل العقلية وما كشفه الفن:

_____________________
1 قد سنح لى في المرض بين النوم واليقظة في والشمس تجرى لمستقر لها اى في مستقرها، لاستقرار منظومتها، اى جريانها لتوليد جاذبتها النظامة للمنظومة الشمسية، ولو سكنت لتناثرت (هذه الحاشية النومية دقيقة لطيفة) - المؤلف.
2 اى لا تظنن ان امور الآخرة واحوالها التى هى مجهولة لنا كتلك النظريات التى يكشف عنها المستقبل (ت: 133)

إشارات الإعجاز - ص: 177
فاعلم! ان المقصد الأصليّ في القرآن الكريم ارشادُ الجمهور الى أربعة اساسات هي: اثبات الصانع الواحد، والنبوّة، والحشر، والعدالة.. فذكرُ الكائنات في القرآن الكريم انما هو تبعيّ واستطراديّ للاستدلال؛ اذ ما نزل القرآن لدرس الجغرافيا والقوزموغرافيا 1، بل انما ذكرَ الكائنات للاستدلال بالصنعة الإِلهية والنظام البديع على النظّام الحقيقي جل جلاله. والحال ان اثر الصنعة والعمد والنظام يتراءى في كل شئ. وكيف كان التشكل فلا علينا؛ اذ لا يتعلق بالمقصد الأصلي، فحينئذ ما دام انه يبحث عنها للاستدلال، وما دام انه يجب كونه معلوما قبل المدعى، وما دام انه يستحسن وضوح الدليل.. كيف لا يقتضي الارشادُ والبلاغةُ تأنيسَ معتقداتهم الحسية، ومماشاة معلوماتهم الأدبية بامالة بعض ظواهر النصوص، اليها، لا ليدل عليها بل من قبيل الكنايات او مستتبعات التراكيب مع وضع قرائن وامارات تشير الى الحقيقة لأهل التحقيق.
مثلا: لو قال القرآن الكريم في مقام الاستدلال:"ايها الناس! تفكّروا في سكون الشمس مع حركتها الصورية، وحركة الأرض اليومية والسنوية مع سكونها ظاهراً، وتأملوا في غرائب الجاذب العموميّ بين النجوم، وانظروا الى عجائب الالكتريك والى الامتزاجات الغير المتناهية بين العناصر السبعين، والى اجتماع الوف الوف حيوانات في قطرة ماء لِتعلموا ان الله على كل شئ قدير!.." لكان الدليل اخفى واغمضَ واشكلَ بدرجات من المدعى. وإنْ هذا الاّ مناف لقاعدة الاستدلال. ثم لأنها من قبيل الكنايات لا يكون معانيها مدار صدق وكذب. ألا ترى ان لفظ "قال" ألفه يفيد خفة سواء كان أصله واوا أو قافا أو كافا.
الحاصل: ان القرآن الكريم لأنه نزل لجميع الانسان في جميع الأعصار يكون هذه النقط الثلاث دلائل اعجازه. والذي علّم القرآنَ المعجِزَ انّ نظر البشير النذير وبصيرته النقّادَة ادقّ وأجلّ وأجلى وأنفذ من ان يلتبس او يشتبه عليه الحقيقة بالخيال، وان مسلكه الحقّ أغنى وأعلى وأنزه وأرفع من ان يدلِّس أو يغالط على الناس!.

_____________________
1 علم الفلك.


إشارات الإعجاز - ص: 178
المسألة السابعة:
اعلم! ان كتب السير والتاريخ قد ذكرت كثيراً من معجزاته المحسوسة، والخوارق الظاهرة المشهورة عند الجمهور، وقد فسرها المحققون. فلأن تعليم المعلوم ضائع، اَحَلْنا التفصيلَ على كتبهم فلنجمل بذكر الأنواع:
فاعلم! ان الخوارق الظاهرة وان كان كل فرد منها آحاديا غير متواتر لكن الجنس وكثيراً من الأنواع متواتر بالمعنى. ثم ان انواعها ثلاثة:
الأول: الارهاصات المتنوعة كانطفاء نار المجوس، ويبوسة بحر ساوة، وانشقاق ايوان كسرى، وبشارات الهواتف. حتى كأنه يتخيل للانسان ان العصر الذي ولد فيه النبيّ عليه الصلاة والسلام صار حسّاساً ذا كرامةٍ فبشّر بقدومه بالحسّ قبل الوقوع.
النوع الثاني: الاخبارات الغيبية الكثيرة من فتح كنوز كسرى وقيصر، وغلبة الروم، وفتح مكة، وأمثالها. كأن روحه المجرّد الطيّار مزّق قيد الزمان المعيّن والمكان المشخّص، فجال في جوانب المستقبل فقال لنا كما شاهد.
النوع الثالث: الخوارق الحسيَّة التي أظهرها وقت التحدِّي والدعوى. كتكلم الحجر، وحركة الشجر وشق القمر، وخروج الماء. وقد قال الزمخشري: بلغ هذا النوع إلى الف. وأصناف من هذا النوع متواترة بالمعنى حتى ان (وانْشَقَّ الْقَمَرُ) لم يتصرف في معناه من أنكر القرآن الكريم أيضاً.
إشارات الإعجاز - ص: 179
فإن قلت: مثل انشقاق القمر لابد أن يشتهر في العالم ويتعارف.
قيل لك: فلإختلاف المطالع، ووجود السحاب، وعدم الترصد للسماء كما في هذا الزمان، ولكونه في وقت الغفلة، ولوجوده في الليل، ولكون الانشقاق آنياً.. لايلزم ان يراه كل الناس أو أكثرهم. على انه قد ثبت في الروايات انه قد رآه كثير من القوافل الذين كان مطلعهم ذلك المطلع.
ثم أن رئيس هذه المعجزات هو القرآن المبين المبرهن اعجازه بجهات سبع أُشير اليها في هذه الآية.
واذ تفهمت هذه المسائل فاستمع لما يتلى عليك من نظم الآىة بوجوهها الثلاثة؛ من نظم المجموع بما قبله، ونظم الجمل بعضها مع بعض، ونظم هيئات وقيود جملة جملة.
أما النظم الأول فمن وجهين:
| الأول: انه لما قال (يا ايها الناس) لإثبات التوحيد - على تفسير ابن عباس - اثبت بهذه نبّوة محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو من اظهر دلائل التوحيد. ثم ان اثبات النبوّة بالمعجزات. وأعظم المعجزات هو القرآن. وادقّ وجوه اعجاز القرآن ما في بلاغة نظمه. ثم انه اتفق الاسلام على ان القرآن معجِز.. الاّ ان المحققين اختلفوا في طرق الاعجاز، لكن لاتزاحم بين تلك الطرق، بل كلٌ اختار جهةً من جهاته. فعند بعض اعجازه: اخباره بالغيوب.. وعند بعض: جمعه للحقائق والعلوم.. وعند بعض: سلامته من التخالف والتناقض.. وعند بعض: غرابة اسلوبه وبديعيته في مقاطع ومبادئ الآيات والسور.. وعند بعض: ظهوره من امّي لم يقرأ ولم يكتب.. وعند بعض: بلوغ بلاغة نظمه الى درجة خارجة عن طوق البشر. وكذا وكذا.. الخ.
ثم اعلم! ان معرفة هذا النوع من الاعجاز تفصيلا انما تحصل بمطالعة أمثال هذا التفسير، واجمالاً يُعْرف بثلاث طرق. (كما حققها عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة والزمخشري والسكاكي والجاحظ 1.)

_____________________
1 (775 - 868م) عمر بن بحر، كاتب ولد ومات بالبصرة، كان من اسرة فقيرة مات ابوه وهو صغير فاضطر الى احتراف بيع الخبز والسمك الى جانب مواصلة التعليم في الكتاب والمسجد والحلقات والاطلاع على كل ما تقع عليه يداه. ألف اكثر من (350) كتاباً اشهر كتبه " الحيوان" و "البيان والتبيين" و" البخلاء".
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس