عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - قطرة


المثنوي العربي النوري - ص: 150
تَلألُؤاً في حِشمَةٍ، تَبَسُّماً في زِينَةٍ؛ مَعَ انتَظامِ الخِلقَةِ مَعَ إتِّزَانِ الصَّنْعَةِ.. تَشَعْشُعُ سِراجِها لِتَبديلِ المَوَاسِمِ، تَهَلهُلُ مِصْباحِها لِتَنويِرِ المعَالَم، تَلألُؤُ نُجُومِها لِتَزيينِ العَوَالِم.. تُعْلِنُ لاَهلِ النُهى سَلْطَنَة بلا انتِهَاءٍ لِتَدبيرِ هذَا العَالَمِ.
فَذَلِكَ الخَلاّقُ القَديرُ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ، وَمُريدٌ بِإرادَةٍ شَامِلَةٍ "ما شآءَ كانَ وَمَالَم يَشأ لَمُ يَكُنْ". وَهُوَ قَدِيرٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ بِقُدْرَةٍ مُطْلَقَةٍ مُحيطةٍ ذاتِيَّةٍ. وَكَما لا يُمكِنُ ولا يُتَصوَّرُ وُجُودُ هذِه الشَّمسِ في هذا اليَومِ بِلا ِضِياءٍ ولا حَرارةٍ، كذَلِكَ لايُمْكِنُ ولايُتَصوَّرُ وُجودُ إلهٍ خالِقٍ للِسَّمواتِ بِلا عِلم مُحيطٍ وبِلا قُدرَةٍ مُطلَقَةٍ.. فَهُوَ بِالضَرورَةِ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ بِعلم مُحيطٍ لازِم ذَاتيٍّ لِلذاتِ يَلزَمُ تَعَلُّقُ ذلِكَ العِلمِ بِكُلِّ الاَشيَاءِ، لايُمكِنُ أنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ شَيءٌ؛ بِسِرِّ الحُضُورِ وَالشُّهُودِ وَالنُّفُوذِ وَالاحَاطَةِ النُّورانِيَّةِ
فَما يُشَاهَدُ في جَميعِ المَوجُودَاتِ: مِنَ الاِنْتِظامَاتِ المَوزُونَةِ، وَالاِتِّزَاناتِ المَنْظُومَةِ، وَالحِكَمِ العَامَّةِ، وَالعِنَايَاتِ التَّامَّةِ، وَالاَقْدَارِ المُنْتَظَمَةِ، وَالاَقْضِيَةِ المُثْمِرَةِ، وَالاَجالِ المُعَيَّنَةِ، وَالاَرزَاقِ المُقَنَّنَةِ، وَالاِتْقَانَاتِ المُفَنَّنَةِ، وَالاِهْتِمَامَاتِ المُزَيَّنَةِ، وَغَايَةِ كَمَالِ الاِمتِيازِ، وَالاِتِّزانِ، وَالاِنْتِظَامِ، وَالاِتْقَانِ، وَالسُّهُولَةِ المُطلَقَةِ.. شَاهِدَاتٌ عَلى إحَاطَةِ عِلمِ عَلاّمِ الْغُيُوبِ بِكُلِّ شَيءٍ، وَإنَّ آيَةَ: (ألايَعلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ) 1. تَدُلُّ عَلى أنَّ الوُجودَ في الشَيءِ يَسْتَلزِمُ العِلمَ بِهِ، وَنُورَ الوُجودِ في الاَشيَاءِ يَستَلزِمُ نُورَ العِلمِ فيها. فَنِسبَةُ دَلالَةِ حُسنِ صَنْعَةِ الاِنسانِ عَلى شُعُورِهِ، إلى نِسبَةِ دَلالَةِ خِلقَةِ الانسانِ عَلى عِلمِ خالِقِهِ، كَنِسبَةِ لُمَيعَةِ نُجَيْمَةِ الذُّبَيْبَةِ في اللَّيلَةِ الدَّهمَاءِ إلى شَعشَعةِ الشَمْسِ في نِصفِ النَّهارِ عَلى وَجهِ الغَبْراءِ.
وَكَما أنَّهُ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ فهو مريد لكُلِّ شَيءٍ لايُمْكِنُ أنْ يَتَحَقَّقَ شَيءٌ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ.

_____________________
1 المُلك : 14




المثنوي العربي النوري - ص: 151
وَكمَا أنَّ القُدْرَةَ تُؤَثِّرُ وَأنَّ العِلمَ يُمَيِّزُ، كَذَلكَ أنَّ الارادةَ تُخَصِّصُ ثُمَّ يَتَحَقَّقُ وُجودُ الاَشيَاءِ، فَالشَوَاهِدُ عَلى وُجودِ إرادَتِهِ تَعالى وَاختِيَارِهِ سُبحانَهُ بِعَدَدِ كَيفِيَّاتِ الاَشيَاءِ وَاحْوالِهَا وَشُئُوناتِها.
نَعَمْ! فَتَنْظيمُ المَوجودَاتِ وَتَخْصيصُها بِصِفاتِها مِنْ بِينِ الاِمْكَانَاتِ الغَيْرِ المَحْدُودَةِ، وَمِنْ بَينِ الطُّرُقِ العَقيمَةِ، وَمِنْ بَينِ الاحتِمَالاتِ المُشَوَّشَةِ، وَتَحتَ أيدي السُّيُولِ المُتَشاكِسَةِ بِهذا النِّظَامِ الاَدَقِّ الاَرَقِّ، وَتَوْزِينُهَا بِهذا المِيزانِ الحَسَّاسِ الجَسَّاسِ المَشْهُودَينِ.. وَاَنَّ خَلقَ المَوجُوداتِ المُختَلِفَاتِ المُنتَظَماتِ الحَيَويَّةِ مِنَ البَسائِطِ الجَامِدَةِ - كَالانسانِ بِجِهَازاتِهِ مِنَ النُّطفَةِ، وَالطَّيْرِ بِجوارِحِهِ مِنَ البَيضَةِ، وَالشَّجَرِ باعْضَائِهِ المُتَنَوعَةِ مِنَ النَّوَاةِ - تَدُلُّ عَلى أنَّ تَخَصُّصَ كُلِّ شَيءٍ وَتَعَيُّنَهُ بارادَتِهِ واختِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ.
فَكَما أنَّ تَوافُقَ الاشيَاءِ مِنْ جِنْسِ وَالافرَادِ مِنْ نَوع، في اسَاساتِ الاَعْضاءِ، يَدُلُّ بالضَّرُورَةِ عَلى أنَّ صانِعَها واحِدٌ أحدٌ.. كَذلكَ أنَّ تَمايُزَها في التَّشَخُّصاتِ الحَكيمَةِ المُشتَمِلَةِ عَلى عَلاماتِ فارِقَةٍ مُنْتَظَمَةٍ، تدُلُّ عَلى أنَّ ذلكَ الصَّانعَ الواحِدَ الاَحدَ هُوَ فاعِلٌ مُختَارٌ مُرِيدٌ.. يَفعَلُ ما يَشآءُ وَيَحكُمُ ما يُريدُ. جَلَّ جَلالُهُ.
وَكَما أنَّ ذلِكَ الخَلاّقَ العَليمَ المُريدَ؛ عَليمٌ بِكُلِّ شَيءٍ وَمُرِيدٌ لِكُلِّ شَيءٍ، لَهُ عِلمٌ مُحيطٌ وَارادةٌ شَامِلَةٌ وَاختيَارٌ تَامٌّ، كَذلكَ لَهُ قُدرَةٌ كاملَةٌ ضَرُوريَّةٌ ذَاتِيَّةٌ ناشِئَةٌ مِنَ الذَّاتِ وَلازِمَةٌ للِذَّاتِ. فَمُحَالٌ تَداخُلُ ضِدِّها، وَإلاَّ لَزِمَ جَمْعُ الضِّدَّيْنِ المُحالُ بالاتِفَاقِ، فَلا مرَاتِبَ في تِلكَ القُدرةِ، فَتَتَساوى بِالنِّسبَةِ إلَيها الذَّرَّاتُ وَالنجُومُ، وَالقَليلُ وَالكثيرُ، وَالصَغيرُ والكبير، وَالجُزئيُّ وَالكُلِّيُّ، وَالجُزءُ وَالكُلُّ، وَالانسانُ وَالعالَمُ، والنُّوَاةُ والشَّجَرُ؛ بِسِرِّ: النُّورَانيَّةِ، وَالشَّفافِيَّةِ، وَالمُقابَلَةِ، وَالمُوَازَنَةِ، وَالانتِظامِ، وَالامتِثالِ؛ بِشَهادَةِ الانتِظامِ المُطلَقِ، وَالاتِّزَانِ المُطلَقِ، وَالامتِيَازِ المُطلَقِ، في السُّرعَةِ


المثنوي العربي النوري - ص: 152
وَالسُّهُولَةِ وَالكَثرَةِ المُطلَقَاتِ. بِسِرِّ: إمدادِ الوَاحِديَّةِ، ويُسرِ الوَحدَةِ، وتجَلِّي الاَحَديَّةِ؛ بِحِكمَةِ الوُجوبِ، وَالتَجَرُّدِ، وَمُبَايَنَةِ الماهيَّةِ. بِسرِّ: عَدَمِ التَّقَيُّدِ، وَعدَمِ التَّحَيُّزِ، وَعَدَمِ التَّجَزُّءِ. بِحِكمَةِ انقِلابِ العَوَائِقِ وَالمَوَانِعِ إلى الوَسَائِلِ في التَسهيل إن احتيجَ إلَيهِ. وَالحَالُ: أنَّهُ لااحتِيَاجَ كاعصابِ الانسانِ وَالخُطُوطِ الحَديديَّةِ لنَقلِ السَيَّالاتِ اللَّطيفَةِ؛ بِحكمةِ أنَّ الذرَّةَ وَالجُزءَ وَالجُزئيَّ وَالقَليل وَالصَغير والانسانَ والنَّواةَ ليسَت بِاقَلَّ جَزَالَةً مِنَ النَّجْمِ وَالنَّوعِ وَالكُلِّ وَالكُلِّيِّ وَالكَثيرِ وَالكَبيرِ وَالعَالَمِ وَالشَّجَرِ. فَمَنْ خَلَقَ هؤُلاءِ لايُسْتَبعَدُ مِنْهُ خَلقُ هذِهِ؛ إذْ المُحاطاتُ كالامثِلَةِ المَكتُوبَةِ المُصَغَّرَةِ أو كالنُّقَطِ المَحلُوبَةِ المُعَصَّرَةِ؛ فَلابُدَّ بالضَرُورَةِ أنْ يَكونَ المُحيطُ في قَبضَةِ تَصَرُّفِ خالِقِ المُحَاطِ، لِيُدْرِجَ مِثالَ المُحيطِ في المُحَاطَاتِ بِدَسَاتيرِ عِلمِهِ، وَاَنْ يَعْصُرَها مِنْهُ بِمَوازينِ حِكمَتِهِ. فَالقُدرَةُ الَّتي أبرَزَتْ هَاتيكَ الجُزئيَّاتِ لايَتَعسَّرُ عَليها إبرَازُ تَاكَ الكُلِّيَّاتِ.
فَكَما أنَّ نُسخَةَ قُرآنِ الحِكمَةِ المَكتُوبَةِ عَلى الجَوهَرِ الفَردِ بِذَرَّاتِ الاَثيرِ؛ لَيسَتْ بِأقَلَّ جَزَالَةً مِنْ نُسْخَةِ قُرآنِ العَظَمَةِ المَكتُوبَةِ عَلى صَحَائِفِ السَّمواتِ بِمِدادِ النُّجُومِ وَالشُّموسِ.. كذَلِكَ لَيسَتْ خِلقَةُ نَحلَةٍ وَنَمْلَةٍ بِاقَلَّ جَزَالَةً مِنْ خِلقَةِ النَّخلَةِ والفيلِ، وَلا صَنْعَةُ وَردِ الزَّهْرَةِ بِاقَلَّ جَزَالَةً مِنْ صَنْعَةِ دُرِّيِّ نَجمِ الزُّهْرَةِ. وَهكَذا فَقِسْ. فَكمَا أنَّ غايَةَ كَمالِ السِّهُولَةِ في إيجَادِ الاَشيَاءِ أوقَعَتْ اهلَ الضَّلالَةِ في اِلتِبَاسِ التَّشكيلِ بالتَّشَكُّلِ، المُستَلزِمِ للِمُحَالاتِ الخُرَافيَّةِ الَّتي تَمُجُّها العُقُولُ، بَل تَتَنَفَّرُ عَنها الاَوهَامُ.. كذلِكَ أثْبَتَتْ بِالقَطعِ وَالضَرُورَةِ لاَهلِ الحَقِّ وَالحَقيقَةِ تَساويَ السَّيَّاراتِ مَعَ الذَّرَّاتِ بالنِسبَةِ إلى قُدْرَةِ خالِقِ الكائِناتِ. جَلَّ جَلالُهُ وَعَظُمَ شأنُهُ وَلآ اِلهَ إلاّ هُوَ.


المثنوي العربي النوري - ص: 153
المرتبة السادسة 1
جَلَّ جَلالُهُ وَعَظُمَ شَأنُهُ الله أكبَرُ مِنْ كُلِّ شَيءِ قُدْرَةً وَعلمَاً؛ إذْ هُوَ العَادِلُ الحَكيمُ القَادِرُ العَليمُ الوَاحِدُ الاَحَدُ السُّلطَانُ الاَزَليُّ الَّذي: هذِهِ العَوَالِمُ كُلُّهَا في تَصَرُّفِ قَبْضَتَىْ نِظامِهِ وَميزَانِهِ، وَتَنْظيمِهِ وَتَوزيِنِهِ وَعَدلِهِ وَحِكمَتِهِ وَعِلمِهِ وَقُدرَتِهِ، وَمَظهَرُ سِرِّ وَاحِدِيَّتِهِ وَأحَديَّتِهِ بِالحَدْسِ الشُّهُوديِّ، بَل بِالمُشَاهَدَةِ؛ إذ لاخَارِجَ في الكَونِ مِنْ دَائِرَةِ النِّظَامِ وَالميزَانِ، وَالتَّنظيمِ وَالتَّوزينِ. وَهُمَا بابانِ مِن"الاِمامِ المُبينِ وَالكِتَابِ المُبينِ"، وَهُما عُنوَانانِ لِعِلمِ العَليمِ الحَكيمِ وَأمْرِهِ، وَقُدْرَةِ العَزيزِ الرَّحيمِ وَإرادَتِهِ. فَذلكَ النِّظامُ مَعَ ذلكَ المِيزَانِ في ذلكَ الكِتَابِ مَعَ ذلكَ الاِمامِ بُرهَانانِ نَيِّرانِ؛ لِمَنْ لَهُ في رَأسِهِ إذعَانٌ وفي وَجهِهِ العَينَانِ: أنْ لاشَيءَ مِنَ الاَشياءِ في الكَونِ وَالزَّمانِ، يَخْرُجُ منْ قَبضَةِ تَصَرُّفِ رَحمن، وَتَنْظيمِ حَنَّانٍ وَتَزييِنِ مَنَّانٍ وَتَوزينِ دَيَّانٍ.
الحَاصِلُ.. أنَّ تَجَلِّيَ الاِسمِ "الاَوَّلِ وَالاَخِرِ" في الخَلاّقِيَّةِ ، النَّاظِرَينِ إلى المَبدَإِ وَالمُنتَهى، وَالاَصلِ وَالنَسلِ، وَالمَاضي وَالمُستَقبلِ، وَالاَمرِ وَالعِلمِ، مُشيرانِ إلى"الاِمامِ المُبينِ". وَتَجَلِّيَ الاِسمِ "الظَّاهِرِ وَالباطِنِ" عَلى الاَشيَاءِ في ضِمنِ الخَلاّقِيَّةِ، يُشيرانِ إلى"الكِتابِ المُبينِ".
فَالكَائِناتُ كَشَجَرَةٍ عَظيمَةٍ، وَكُلُّ عالَمٍ مِنها ايضاً كَالشَّجَرةِ. فَنُمَثِّلُ شَجَرَةً جُزئِيَّةً لِخِلقَةِ الكائِناتِ وَاَنواعِها وَعَوالِمِها. وهَذِهِ الشَّجَرَة الجُزئِيَّةُ لها أصلٌ وَمَبدَأٌ، وَهُوَ النَّواةُ الَّتي تَنبُتُ عَليهَا. وَكَذا نَسلٌ يُديمُ وَظيفَتَها بَعدَ مَوتِها؛ وَهُوَ النَّواةُ في ثَمَراتِها. فَالمَبدَأُ وَالمُنتَهى مَظهَرانِ لِتَجَلِّي الاِسمِ "الاَوَّلِ وَالآخِرِ" فَكأنَّ المَبدأ وَالنَّواةَ الاَصليَّةَ بِالانتِظامِ وَالحِكمَةِ فِهرِستَةٌ، وَتَعرِفَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَجمُوعِ دَساتيرِ تَشكُّلِ الشَّجَرةِ، وَالنَّواتَاتُ في ثَمَراتِها الَّتي في نِهاياتِها مَظهَرٌ لِتَجَلِّي الاِسمِ "الآخِر".
_____________________
1 [ لو كتبت هذه المرتبة السادسة كسائر المراتب لطالت جداً، لان »الامام المبين والكتاب المبين "لا يمكن بيانهما باختصار، وحيث اننا ذكرنا نبذة منهما في "الكلمة الثلاثين" فقد اجملنا هنا ، الاّ اننا اسردنا بعض الايضاحات اثناء الدرس] . المؤلف.




المثنوي العربي النوري - ص: 154
فَتِلكَ النَّواتاتُ في الثَّمَراتِ بِكمَالِ الحِكمَةِ كَأنَها صُنَيدِيقَاتٌ صَغيرَةٌ اُودِعَتْ فيها فِهرِستَةٌ وَتَعرِفَةٌ لتَشَكُّلِ ما يُشابِهُ تِلكَ الشَجَرةَ وَكأنَّها كُتِبَ فيها بِقَلَمِ القَدَرِ دَساتيرُ تَشكُّلِ شَجَراتٍ آتِيَةٍ. وَظاهِرُ الشَّجَرَةِ مَظهَرٌ لِتَجَلِّي الاِسمِ "الظَّاهِرِ". فَظَاهِرُها بِكَمالِ الاِنتِظامِ وَالتَّزيينِ وَالحِكمَةِ كَأنَها حُلَّةٌ مُنتَظَمَةٌ مُزَيَّنَةٌ مُرَصَّعَةٌ، قَد قُدَّتْ عَلى مِقدارِ قَامَتِها بِكَمالِ الحِكمَةِ وَالعِنَايَةِ. وَبَاطِنُ تِلكَ الشَّجَرَةِ مَظهَرٌ لِتَجَلِّي الاِسمِ "البَاطِنِ" فَبكَمالِ الانتِظامِ وَالتَّدبيرِ المُحَيِّرِ للِعُقُولِ، وَتَوزيعِ مَوَادِّ الحَياةِ الى الاَعَضاءِ المُختَلِفَةِ بِكَمالِ الانتِظامِ، كأنَّ باطِنَ تِلكَ الشَّجَرَةِ ماكِينَةٌ خَارِقَةٌ في غَايَةِ الاِنتَظامِ وَالاِتِّزَانِ. فَكَما أنَّ أوَّلَها تَعرِفَةٌ عَجيبَةٌ، وآخِرَها فِهرِستَةٌ خارِقَةٌ يشيرانِ إلى "الاِمامِ المُبينِ".. كَذَلكَ إنَّ ظَاهِرَها كحُلَّةٍ عَجيبَةِ الصَنْعَةِ، وَباطِنَها كَمَاكينَةٍ في غَايَةِ الاِنتِظامِ، يشيرَانِ إلى"الكِتَابِ المُبينِ". فَكما أنَّ القُوَّاتِ المُحَافِظاتِ في الاِنسانِ تُشيرُ إلى"اللَّوحِ المَحفُوظِ" وَتَدُلُّ عَلَيهِ، كَذلِكَ إنَّ النَّوَاتاتِ الاَصليَّةَ وَالثَّمَراتِ تُشيرَانِ في كُلِّ شَجَرةٍ إلى"الاِمامِ المُبينِ" وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ يَرمُزَانِ إلى"الكِتَابِ المُبينِ". فَقِسْ عَلى هذِهِ الشَّجَرَةِ الجُزئِيَّةِ شَجَرَةَ الاَرضِ بِمَاضِيها وَمُستَقبَلِها، وَشَجَرةَ الكَائِناتِ بِاَوائِلِها وَاتِيها، وَشَجَرةَ الاِنسانِ بِاجْدَادِها وَانسَالِها. وَهَكذا جَلَّ جَلالُ خالِقِها وَلا إلَهَ إلاّ هُوَ.. يا كَبيرُ أنتَ الَّذي لاتَهدِي العُقُولُ لِوَصفِ عَظَمَتِهِ، وَلاتَصِلُ الاَفْكَارُ إلى كُنْهِ جَبَرُوتِهِ..
المرتبة السابعة
جَلَّ جَلالُهُ الله أكبَرُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ قُدرَةً وَعِلماً إذ هُوَ الخَلاّقُ الفَتَّاحُ الفَعَّالُ العَلاّمُ الوَهَّابُ الفَيَّاضُ، 1 شَمسُ الاَزَلِ الَّذي: هذِهِ الكَائِناتُ بِانواعِها وَمَوجُودَاتِها ظِلالُ أنوَارهِ، وَآثارُ أفعَالِهِ، وَألوانُ نُقوشِ انواعِ تَجَلِّياتِ اسمائِهِ، وخُطُوطُ قَلَمِ قَضائِهِ
_____________________
1 [يمكن الانتقال الى المسمى ذي الجلال والاكرام بالنظر بمنظار هذه الاسماء المباركة الى مظاهر الافعال والآثار الالهية وراء هذه الموجودات ] . المؤلف



المثنوي العربي النوري - ص: 155
وَقَدَرِهِ، وَمَرَايَا تَجَلِّياتِ صِفَاتِهِ وَجَمَالِهِ وَجَلالِهِ وَكَمالِهِ؛ بِاجمَاعِ الشَّاهِدِ الأزَليِّ بِجَميعِ كُتُبِهِ وَصُحُفِهِ وآياتِهِ التَكْويِنيَّةِ والقُرآنيَّةِ، وباجمَاعِ الاَرضِ مَعَ العَالَمِ بِافتِقَاراتِها وَاحتِيَاجاتِها في ذاتِها وَذَرَّاتِها مَعَ تَظاهُرِ الغَناءِ المُطلَقِ وَالثَّروَةِ المُطلَقَةِ عَلَيها؛ وباجمَاعِ كُلِّ اهلِ الشُّهُودِ مِنْ ذَوي الاَرواحِ النَّيِّرَةِ، وَالقُلوبِ المُنَوَّرَةِ، وَالعُقُولِ النُّورانيَّةِ مِنَ الاَنبِيَاءِ وَالاَولِيَاءِ والاَصفِيَاءِ بِجَميعِ تَحقيقَاتِهِمْ وَكُشُوفَاتِهِمْ وَفُيُوضاتِهِمْ وَمُنَاجَاتِهِم. قَدْ اتَّفَقَ الكُلُّ مِنهُم، وَمِنَ الاَرضِ وَالاَجرَامِ العُلويَّةِ وَالسُّفليَّةِ بِما لا يُحَدُّ مِنْ شَهادَاتِهِمُ القَطعيَّةِ وَتَصدِيقاتِهِمُ اليَقينيَّةِ بِقُبولِ شَهَادَاتِ الآيَاتِ التَّكْوينيَّةِ والقُرآنيَّةِ وَشَهَادَاتِ الصُّحُفِ والكُتُبِ السَّماويَّةِ الَّتي هيَ شَهَادَةُ الوَاجِبِ الوُجُودِ عَلى أنَّ هذِهِ المَوجُودَاتِ: آثارُ قُدرَتِهِ ومكتوبات قَدَرِهِ وَمَرايا أسمائِهِ وَتَمَثُّلاتِ أنوَارِهِ.
جَلَّ جَلالُهُ وَلا إلَهَ إلاّ هُوَ..
***


المثنوي العربي النوري - ص: 156
خاتمة
فى مسائل مشهودة متفرقة
المسألة الاولى:
اعلم: إني اقول مادمتُ حياً، كما قال مولانا جلال الدين الرومي قُدس سرّه:
من بندهء قرآنم اكر جان دارم من خاك راه محمد مختاره م 1
لأني أرى القرآن منبع كلّ الفيوض، وما في آثاري من محاسن الحقائق ما هو الاّ من فيض القرآن. فلهذا لايرضى قلبي أن يخلو اثرٌ من آثاري من ذِكرِ نُبذٍ من مزايا اعجاز القرآن. ولقد ذكرتُ في [اللوامع] 2 انواع اعجاز القرآن البالغة الى نيف واربعين نوعاً. أذكرُ هنا تبركاً مسألة فقط؛ هي هذه:
انظر الى مَن قال؟ ولمَن قال؟ ولِمَا قال؟ وفيمَا قال؟
نعم! ان مَنابع علو طبقة الكلام؛ وقوتَه وحسنَه وجماله اربعةٌ: المتكلم، والمخَاطَبُ، والمقصدُ، والمقامُ. لا المقام فقط.. كما ضلّ فيه الادباء. وكذا ان الكلام لفظُه ليس جسداً بل لباسٌ له، ومعناه ليس روحاً بل بدنٌ له. وما حياتهُ الاّ مِن نية المتكلم وحسّه. وما روحه الاّ معنىً منفوخٌ من طرف المتكلم. فالكلام إن كان أمراً أو نهياً فقد يتضمن الارادة والقدرة بحسب درجة المتكلم، فتتضاعف علوية الكلام وقوته.
نعم؛ اين صورة امر فضولي ناشئ من اماني التمني وهو غير مسموع، واين الامر الحقيقي النافذ المتضمن للارادة والقدرة؟ فانظر اين
(يَا أرضُ ابْلَعي مَاءكِ ويَا سَماءُ أقلِعي) 3 واين خطاب البشر للجمادات كهذيانات المُبَرسَمين 4: "اسكني ياارض وانشقي ياسماء وقومي ياايتها القيامة".. وكذا اين أمر امير مُطاع لجيش

_____________________
1 [[مَادمتُ حياً فأنا خادم القرآن.. وانا تراب سبيل محمد المصطفى]].
2 المنشورة ملحقة بمجموعة »الكلمات«.
3 هود : 44
4 المبرسم : الذي اصيب بالبرسام ، وهو التهاب في الحجاب الذي بين الكبد والقلب.



المثنوي العربي النوري - ص: 157
عظيم مطيع بـ"آرش!..." 1 واهجموا على اعداء الله، فهجموا وغلبوا، ثم اين هذا الامر اذا صدر من حقير لايُبالى به وبأمره.. وكذا اين تصويرُ مالكٍ حقيقي، وآمرٍ مؤثر أمره، نافذ حكمه، وصانع وهو يصنع، ومُنعمٍ وهو يُحسن قد شرع يصوّر أفاعيله، يقول: فعلتُ كذا وكذا.. افعل هذا وذاك.. صيّرتُ لبيتكم الارضَ فرشاً والسماء سقفاً، ثم اين تصوير فضولي وبحثه عن افاعيل لاتماسَّ له بها.. وكذا اين أعيان النجومِ ثم اين تماثيلها الصغيرة السيالة - التي لا هي موجودة ولا معدومة - المرئية في الزُجيجات؟ نعم، اين ملائكة كلمات كلام خالق الشمس والقمر، ثم اين زنابير مزامير مزوّرات البشر؟.. وكذا اين الفاظ القرآن التي هي اصداف الهدى والحقائق الايمانية والاساسات المنبثة من عرش الرحمن مع تضمن اللفظ للخطاب الازلي وللعلم والقدرة والارادة، ثم اين الفاظ الانسان الهوائية الواهية الهَوسيَة؟ 2.. وكذا اين شجرة تفرعت واورقت وازهرت واثمرت، ثم اين المعجون الذي اتخذه احد من بعض ثمراتها بتغيير صورة الثمرات وازالة العقدة الحياتية منها مع مزجها بمادة اخرى؟
نعم! ان القرآن انبتَ شجرةً هكذا فانقلبت كل نويّاته دساتير عملية واشجاراً مثمرةً، تشكل وتركب منها هذا العالمُ الاسلامي بمعنوياته واعماله، فأخذ منها كلُّ الافكار فتَصَّرفَ فيها الى الآن حتى صارت حقائقهُ العلوية العالية علوماً متعارفة ومُسَلّماتٍ. فيقوم احدٌ ويأخذ من تلك الحقائق ويتصرف فيها بتغيير الصورة، فتزيل منها العقدةَ الحياتية. ثم على زعمه يزيّنها بتهوسه، فيوازن ذوقه الفاسد بينه وبين الآيات. فكيف يمكن الموازنة بين الصورة العَرضَية التابعة المنحوتة بهوس الصبيان في جواهر منتظمة ودرر منثورة، وبين تلك الجواهر والدرر نفسها؟
ولقد شاهدتُ ان مشاهدة جمال القرآن تابعةٌ لدرجةِ سلامة القلب وصحته. فمريضُ القلب لايشاهد الاّ ما يشوّه له مرضه. فاسلوب القرآن والقلب كلاهما مرآتان ينعكس كلُّ واحدٍ في الآخر.

_____________________
1 ايعاز عسكري بمعنى : تقدم ، سر.
2 الهوس: مصدر هاس: وهو طرف من الجنون وخفة العقل.



المثنوي العربي النوري - ص: 158
نكتة 1......... 2
نكتة:
ولأن الايمان يؤسس الاخوة بين كل شئ، لايشتد الحرصُ والعداوةُ والحقد والوحشة في روح المؤمن؛ إذ بالدقة يرى اعدى عدوه نوع اخٍ له.. ولأن الكفر يؤسس اجنبيةً وافتراقاً - لا الى اتصال - بين كل الاشياء، يشتد في الكافر الحرصُ والعداوةُ والتزام النفس والاعتمادُ عليها. ومن هذا السر صاروا غالبين في الحياة الدنيا. ولأن الكافر يرى في الدنيا مكافأة حسناتِه في الجملة، والمؤمن يرى جزاءَ بعضَ سيئآته في الدنيا؛ صارت (سجن المؤمن وجنة الكافر). 3
واعلم: ان اكسير الايمان اذا دخل في القلب يصيّر الانسان جوهراً لائقاً للابدية والجنة، وبالكفر يصير خزفاً خالياً فانياً. اذ الايمانُ يرى تحت القشر الفاني لباً لطيفاً رصيناً، ويرى مايُتوهم حَباباً مُشمساً زائلاً، ألماساً متنوراً. والكفر يرى القشر لباً فيتصلب فيه فقط. فتنزل درجة الانسان من الألماس؛ الى الزجاجة بل الى الجمد، بل الى الحباب، هكذا شاهدتُ..
نقطة
قد شاهدتُ ازدياد العلم الفلسفي في أزديادِ المرض، كما رأيت ازدياد المرض في ازدياد العلم العقلي. فالامراض المعنوية توصِلُ الى علوم عقلية، كما ان العلوم العقلية تولّد امراضاً قلبية.

_____________________
1 النكتة: هي مسألة لطيفة اخرجت بدقة نظر وامعان فكر ، وسميت المسألة الدقيقة نكتة لتأثير الخواطر في استنباطها (التعريفات للجرجاني).
2 في (ط1) : نكتة : (اعلم) ان ما يُرى على كل شئ من اثر الشعور والعلم والبصر فيه إطلاق يشير الى عدم التناهي ، لا يتيسر للمقيّد المتناهي - من الشعور والعلم والبصر - ذلك التأثير . وان ذرة الاطلاق وعدم التناهي اجلّ واعظم بلا حدّ من المحدود المقيد.. فإن شئت تقريب هذه الحقيقة الى الفهم فانظر الى »عالم المثال« الذي هو اقرب الى الاطلاق من عالم الشهادة المقيد، ترَ ذرة من جرم شفاف - الذي هو منفذ من هنا الى عالم المثال - يمكن ان تسع - تلك الذرة من الصور المثالية ما لا تسع الارض من اعيانها.
3 (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) : رواه مسلم (2959) كتاب الزهد ، وابن ماجة (4113) كتاب الزهد ، والترمذي (2324) كتاب الزهد ايضاً . ورواه احمد في مسنده (2 / 458) وكلهم عن ابي هريرة.



المثنوي العربي النوري - ص: 159
وكذا شاهدت الدنيا ذات وجهين:
وجه: ظاهرهُ مأنوس في الجملة مؤقتاً، باطنهُ موحشٌ الى مالايحد.
ووجه: ظاهره موحِش في الجملة، وباطنهُ مؤنس الى مالانهاية.
فالقرآن يوجّه الانظار الى الوجه الثاني، الذي يتصل بالآخرة. والوجه الاول الذي يتصل بالعدم ضد الآخرة، وضرّتها ومعكوستها حسنه قبيحها، قبيحه حسنها.
وكذا شاهدتُ ان ما في الممكن من وجه الوجود بالانانية يوصِل الى العدم وينقلبُ اليه، وما فيه من وجه العدم بتركِ الانانية ينظرُ الى الوجود الواجب. فان اَحببتَ الوجودَ فانعدم لِتَجِد الوجود..
نكتة
اعلم! ان النية إحدى الكلمات الاربعة التي ذُكرت في المقدمة انها محصولة اربعين سنة من عمري!
نعم! ان النية؛ اكسيرٌ عجيب تقلب بخاصيتها العادات الترابية والحركات الرملية 1 الى جوهر العبادة.. وكذا هي روح نافذة تحيا بها الحالات الميتة، فتصير عبادات حيوية.. وكذا فيها خاصيةٌ تقلبُ السيئات حسنات.
فالنية روح، وروحها "الاخلاص" فلا خلاص الاّ بالاخلاص. ويمكن بالنية - بسبب هذه الخاصية - عملُ كثير في زمانٍ قليل، فيمكن اشتراء الجنة بما يُعمل في هذا العمر القليل بهمّة تلك الخاصية.
وبالنية يصيرُ المرءُ شاكراً دائماً؛ لأن ما في الدنيا من اللذائذ والنِعَم يُقتطف بوجهين:
الوجه الاول: يقول المرءُ بسبب النية هذه النعمة مَدَّتْها اليّ يدُ رحيمٍ محسن، فينتقل نظرهُ من النِعمة الى الإِنعام. فيتلذذ به ازيد من نفس النعمة.

_____________________
1 اي العادات الارضية.



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس