القيلُ والقال يُفسِدُ الأحوال ويضيِّعُ الرِّجال..
كلماتٌ سمعتُها من أحدِ العلماءِ الربَّانيِّين منذ ثلاثين سنةً تقريباً، حيثُ كُنَّا في مجلسٍ في حضرةِ شيخنا سيدي الشيخ أحمد فتح الله رحمه الله تعالى، وبعدَ انتهاءِ مجلسِ الذِّكرِ وتلاوةِ القارئ، أشارَ إليه شيخُنا رضيَ اللهُ تعالى عنهُ بأنْ يتكلَّمَ، فتكلَّمَ كلماتٍ موجزةً، وكان ممَّا قالَهُ هذهِ الكلماتُ.. وكان وجهُ شيخِنا رحمه اللهُ تعالى يتهلَّلُ سروراً بهذه النصيحة.
جزى اللهُ عنَّا مَنْ ربَّانا خيرَ الجزاء، ونسألُ اللهَ تعالى أن يحفظَنا منَ القيلِ والقال، وأنْ يُصلِحَ لنا الأحوال، وأن يجعلَنا من أهلِ الصدقِ في الأعمال، وأن يُلحِقَنا بكُمَّلِ الرجال، على هديِ سيِّدِنا رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم القائل: (لَا تُكْثِرُوا الكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ القَاسِي) رواه الإمامُ الترمذيُّ رحمه الله تعالى.
وبهذا الانضباطِ الشرعيِّ والأدبِ الإسلامي، يتحصَّنُ المسلمونَ، وتتحصَّنُ الأُخوَّةُ الإسلاميةُ، ويتحصَّنُ الإخوانُ في الله، كما تتحصَّنُ الأُسَرُ منَ الفتنِ، التي تصدرُ عنِ القيلِ والقالِ المُفسِدِ للأحوال، المضيِّعِ للنساءِ والرجال، وربُّنا جلَّ وعلا يقولُ: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}؛ ذلك لأنَّ الكلامَ فيهِ الحسنُ والأحسنُ، كما أنَّ فيه القبيحَ والأقبح، واللهُ عزَّ وجلَّ ندبَنا في هذه الآيةِ إلى الكلمةِ الأحسنِ، وأتبعَ الأمرَ بقولِهِ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}، يعني: حيثُما نزلَ كلامُنا عن هذا المستوى الرفيعِ، فذلكَ يُعطي الشيطانَ فرصةَ النَّزْغِ بينَنا..
فتأملْ هذا.. وانظرْ حالَ أكثرِ الخلق؛ إذ يبقى كلامُهم دائراً بينَ القبيحِ والأقبحِ، والفاحشِ والأفحشِ، والمباح، ومنهم من يرتقي إلى دائرةِ الحَسَن، والنادرُ مَنْ يرتقي إلى الأحسن.. والآيةُ تشيرُ إلى أنَّ الكلامَ الحسنَ يمكنُ أنْ ينزَغَ الشيطانُ بينَ أهله، ما لم يرتَقوا إلى الكلامِ الأحسن..
اللهمَّ بلِّغْنا ذلكَ المَقام، وطهِّرْ أفئدتَنا من السخائمِ والآثام، فإنَّ الأفئدةَ مصدرُ الكلام.. ويرحمُ اللهُ الإمامَ المُلْهَمَ سيدي أحمدَ بنَ عطاءِ اللهِ رضي الله تعالى عنه وأرضاهُ حيثُ يقولُ: (كُلُّ كَلامٍ يَبْرُزُ وَعَلَيْهِ كِسْوَةُ القَلْبِ الَّذِي مِنْهُ بَرَزَ)، فاللسانُ ترجمانُ القلبِ، فإذا صفا القلبُ منَ الأكدار، وتزكَّى منَ الأغيار، وأشرقَتْ فيهِ الأنوار، كانت ترجمانيَّةُ لسانِهِ على حَسَبِ ذلك، فيتكلَّمُ بالكلامِ النورانيِّ الذي يَلِجُ آذانَ السامعين، فتنفتحُ بهِ أقفالُ قلوبِهم، ويستجيبونَ لنداءِ الحقِّ حبيبِهم.
نرجو الله جلَّ وعلا أن يوفِّقَنا جميعاً للعملِ بهذهِ النَّصيحة؛ لأنَّ ربَّنا جلَّ وعلا يقولُ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾.
حفظكم الله تعالى وبارك فيكم..
وصلى الله تعالى على سيِّدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.