بسم الله الرحمان الرحيم


قال عليه الصلاة والسلام :

( اليد العليا خير من اليد السفلى )

طبعا كلّنا يعرف شرح هذا الحديث بحسب الظاهر ومنطوقه الذي هو الهدى والطريق المستقيم , لكن قد تنجلي فهومات وأذواق عاليات بعد فهمنا الأوّل الذي نتشارك فيه مع غيرنا , فعزمت على ذكر بعض المفاهيم فأٍرجو من كلّ قارئ أن يفيدنا من أذواقه شيئا

خاطرة :

اليد العليا : لا بدّ أن يكون مقامها في أعلى علّيين , وإلاّ فليست بيد عليا , فيكون أنفاقها من فوق لقوله تعالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) فحقيقة مجيء الرزق من السماء بدليل الآية فهذا إنفاق الأرواح والقلوب بالأحوال والنفحات غذاء القلب والروح , فهو من أعلى درجات الإنفاق لأنّ عالمه علوي
اليد السفلى : تنفق من تحت أي ممّا تخرجه الأرض أو يعمله الإنسان , ( ممّا تنبت الأرض ) فلا يكون هذا الإنفاق إلاّ بعد أن تخضرّ الأرض وتؤتي خيراتها بسبب الماء والغيث النازل من السماء , فالأرض ميّتة ( فأحيينا به الأرض بعد موتها ) فكان هذا الإنفاق السفلي في حقيقته أثر من آثار أرزاق السماء , فلولا غيث السماء لما كان نبات الأرض

فاليد العليا : تنفق
وكذلك اليد السفلى : تنفق

فكما قال ساداتنا : هذه تنفق على القلوب والأرواح , وتلك تنفق على الأجساد والأجسام

فلا بدّ من هذه اليد ( اليد العليا ) ولا بدّ من تلك اليد ( اليد السفلى ) إلاّ أنّ السبق لليد العليا على اليد السفلى
لمّا جاء سيّدنا أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه بجميع ماله لسيّدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام قال له : ( ماذا تركت لأهلك ؟ ) كان يسأل عن حال بيت الصدّيق لعدم أنانيته صلى الله عليه وسلّم واشفاقه عليهم وتفكيره فيهم , وكان في نفس الوقت يختبر حال الصدّيق رضي الله عنه , فقال له : ( لقد تركت لهم الله ورسوله ) فأجابه : ( فإنّ لهم ذلك ) أنظر يا مريد يا صادق : هذا الإنفاق المحمّدي أنظر قوله : ( إنّ لهم ذلك ) ها هي اليد العليا قد ظهرت فكانت يد الصدّيق السفلى ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) وإنّما أهدى الصدّيق ماله ومال عياله وأهله لأنّه حمل عن رسول الله كلّه , فحمل عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام كلّه مع عياله , ثمّ ما قال له : ماذا تركت لنفسك يا أبا بكر ؟ بل قال له : ماذا تركت لأهلك ؟ أنظر هذا العلم المحمّدي الذي تعجز عن فهمه العقول , ثمّ قوله : ( فإنّ لهم ذلك ) أي لهم الله ورسوله : حضرة قدسية وحضرة محمدية , لماذا : لأنّ مفاتيح الحضرة بيده عليه الصلاة والسلام , وكذلك مفاتيح حضرته الشريفة عليه الصلاة والسلام , وكذلك هي الجنّة فهو فاتحها وبيده مفاتيحها , ثمّ أدب الصدّيق رضي الله عنه : ما قال له ( فإنّ لهم رسول الله ) بل قال ( تركت لهم الله ورسوله ) أدب جمّ ومعرفة عظيمة وعلم غزير ومحبّة مثلى , هل تدري في أي مقام أعطى الصدّيق ماله : الجواب : ليس في باب العلل أو الطمع الظاهري أو الباطني , بل في حال فناء المحبّة والصدق والصفاء والإخلاص وكمال المعرفة , فقد جاء الصدّيق ... ولكن ما جاء وما قدم إلاّ بعد أن ترك لهم الله ورسوله , اليد السفلى تنفق , واليد العليا تنفق : أنت يا أبا بكر أتيت بمالك فقط , أمّا أنا فأعطيك كلّي يا أبا بكر , أنت بمالك , نلت الله ورسوله ,
قال عليه الصلاة والسلام للأنصار : يا معشر الأنصار : أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والإبل وتذهبون أنتم برسول الله .
نعم قد رضوا وقد ذهبوا به وهو إلى اليوم هناك في رحابهم وأرضهم قال لهم : المحيا محياكم والممات مماتكم يا معشر الأنصار
هل فهمت معنى اليد العليا : هي يد رسول الله عليه الصلاة والسلام لأنّها : يد الله فوق أيديهم

اليوم يا مريد : تنفق على شيخك في الفاني وينفق هو عليك في الباقي ثمّ تظنّ يدك هي العليا ويد شيخك هي السفلى , بل إنفاقك كلّه لولا شيخك لما صلح قلبك أن ينفق لما فيه من شحّ وبخل وأنانية ومحبّة للدنيا , فهو الذي أنفق عليك لتنفق عليه , لماذا أتى الصدّيق بماله ؟ فلأنّ إنفاق رسول الله عليه قد غمره وكرمه قد جرفه

أنت اليوم تشحّ على شيخك فلا تخدمه ولا تنفق عليه ولا على من عنده ثمّ تظنّ أنّ يدك عليا وأيديهم سفلى , من رأى يده عليا فهي يد سفلى , ومن رأى يده سفلى فهي يد عليا

اليد العليا خير من اليد السفلى : هل أنت من أهل علّيين ؟ فتنوّرت ذاتك , وصلحت صفاتك , وتطهّرت حقيقتك , ؟ إذن ليست بيدك يد عليا , بل هي مهما أنفقت يد سفلى

لو كتب الكاتبون , بحار الدنيا , والأشجار أقلام , ما أحسنوا جميعهم أن يحيطوا بأخلاق رسول الله عليه الصلاة والسلام , من أحبّ رسول الله فهو المؤمن الحقيقي فإنّ حضرة الإيمان هي حضرة الرسول وحضرة الإحسان هي حضرة الله

اليد العليا : حضرتها إحسانية

اليد السفلى : حضرتها إيمانية

وإلاّ فالرزق كلّه من عندالله إن كنت فهمت