صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 27
المقالة الاولى
عنصر الحقيقة
مقدمات ومسائل
ان من دساتير أهل العلم المحققين الاستناد الى مقدمات، بلوغاً الى
الهدف والقصد. لذا ننصب سلماً ذا اثنتي عشرة مرتبة:
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 29
المقدمة الاولى
من الاصول المقررة انه:
اذا تعارض العقل والنقل، يعدّ العقل أصلاً ويؤوّل النقل، ولكن ينبغي لذلك العقل ان يكون عقلاً حقاً.
ثم قد تحقق أيضاً:
ان مقاصد القرآن الاساسية وعناصره الأصلية المنبثة في كل جهاته أربعة: اثبات الصانع الواحد، والنبوة، والحشر الجسماني، والعدل.
أي: ان القرآن هو وحده الكفيل بالاجابة عن الاسئلة التي تسألها الحكمة (الفلسفة) من الكائنات: من أين؟ وبأمر مَن تأتون؟ مَن سلطانكم ودليلكم وخطيبكم؟ ما تصنعون؟ والى أين تصيرون؟ ولهذا فذِكرُ الكائنات في القرآن الكريم - مما سوى المقاصد - انما هو ذكر استطرادي لبيان طريق الاستدلال على الصانع الجليل بانتظام الصنعة. نعم! الانتظام يشاهد، بل يُظهر نفسه بكل وضوح. فالصنعة المنتظمة تشهد على وجود الصانع وعلى قصده وارادته شهادة صادقة قاطعة، اذ تتراءى في كل جهة من جهات الكون وتتلألأ من كل جانب.. وتعرض جمال الخلق الى أنظار الحكمة. حتى لكأن كل مصنوع لسان يسبّح بحكمة صانعه، كل نوع يشهد مشيراً باصبعه الى حكمة الصانع.
فمادام المقصد هو هذا، وما دمنا نتعلم من كتاب الكائنات الرموز والاشارات الدالة على الانتظام، وان النتيجة الحاصلة واحدة، فكيفما كان تشكّل الكائنات في ذاتها، فلا علينا، اذ لا تتعلق بنا.
ولكن كل فرد من أفراد الكائنات، الذي دخل ذلك المجلس القرآني الرفيع موظفٌ بأربع وظائف.
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 30
الاولى: اعلان عظمة الخالق الجليل بانتظامه واتفاقه مع غيره.
الثانية: اظهاره ان الاسلام زبدة العلوم الحقيقية، حيث ان كلاً من الافراد موضوعٌ وخلاصة لعلمٍ من العلوم الحقيقية .
الثالثة: اثبات تطابق الاسلام مع القوانين والنواميس الالهية الجارية في العالم وانطباقه عليها لينمو الاسلام ويترعرع بامداد تلك النواميس الفطرية، حيث ان كل فرد من الكائنات نموذج لنوع.
نعم! ان الاسلام، الدين المبين، يتميز بهذه الخاصية عن سائر الاديان المترددة بين الهوى والهوسات، لفقدانها الجذور العريقة الممدة لها. فتارة تضئ واخرى تنطفئ، وتتغير بسرعة.
الرابعة: توجيه الافكار الى حقائق الاشياء والحث عليها والتنبيه اليها، من حيث ان كل فرد منها نموذج لحقيقة من الحقائق.
فمثلاً: ان القَسَم بالاجرام العلوية والسفلية في القرآن الكريم، انما هو لتنبيه الغافلين دوماً وحثهم على التفكير. فالقَسَم القرآني قرع العصا لمن غطّ في نوم الغفلة.
فالذي تحقق الآن هو الآتي:
ان القرآن الكريم الذي هو معجز، وفي أسمى بلاغة وأرفعها، يسلك بلا ريب أوضح طرق الاستدلال وأصوبها وأقصرها وأوفقها لأساليب اللغة العربية، اي انه يراعي حسيّات العوام لأجل افهامهم وارشادهم، اي يذكر الدليل وهو انتظام الكون بوجه يكون معروفاً لديهم وتأنس به عقولهم.. وبخلافه يكون الدليل أخفى من المدّعى مما ينافي طريق الارشاد ومنهج البلاغة ومذهب الاعجاز.
فمثلاً: لو قال القرآن: أيها الناس! انظروا الى الكرة الارضية الطائرة في انجذاب ونشوة والسائرة في جو الفضاء، وتأملوا في الشمس المستقرة مع حركتها والاجرام العلوية المرتبط بعضها ببعض بالجاذبة العامة، وتدبّروا في العناصر الكثيرة المرتبط بعضها ببعض بأواصر كيمياوية في شجرة الخلقة المنتشرة فروعها في الفضاء غير المحدود.. لتتصوروا عظمة الصانع!! او انظروا بمجهر عقولكم الى قطرة ماء، التي تستوعب عالماً من الحيوانات، بأن الله على كل شئ قدير.!!
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 31
فلو قال القرآن هذا، أما كان الدليل اخفى وأغمض من المدّعى واحوج الى التوضيح؟ أما كان ذلك تنويراً للحقيقة بشئ مظلم بالنسبة لهم! أو تكليفهم بأمر غير معقول هو مغالطة انفسهم تجاه بداهة حسّهم!
ان اعجاز القرآن اجلّ واطهر من ان يقع على ذيله الصافي اللامع غبار إخلال الافهام. ولقد لوّح القرآن الكريم الى المقصد الحقيقي في معاطف الآيات البينات وتلافيفها، كما جعل قسماً من ظواهر الآيات مناراً ومرشداً الى المقصد، كالكناية عليه.
ومن الأصول المقررة أيضاً:
ان الصدق والكذب، أو التصديق والتكذيب في الكنايات وأمثالها لايرجعان الى صورة المعنى، اي الى "المعاني الاولى" كما يعبر عنها فن البيان، بل يتوجهان الى المقصد والغرض، اي الى "المعاني الثانوية". فكما اذا قيل : "طويل النجاد" فالحكم صحيح والكلام صدق ان كان الشخص طويل القامة وان لم يكن له سيف. وكما تكون الكلمة الواحدة في كلام، قرينة المجاز1 للاستعارة، فان طائفة من الآيات الكريمة، كأنها كلمة واحدة لكلام الله، تكون قرائن لحقائق وجواهر سائر أخواتها، وترجمان وادلاء على ما في ضمائر جاراتها من أسرار.
حاصل الكلام:
من لم يضع هذه الحقيقة نصب العين، وعجز عن موازنة الايات، ولم يتمكن من الحكم بينها حكماً عدلاً، يكون كالبكتاشي الذي قال لتسويغ تركه الصلاة؛ ان القرآن يقول: (لا تقربوا الصلاة).. أما ما بعده فلست حافظاً للآية! ألا يكون هذا موضع هزء في نظر الحقيقة؟!
_____________________
1 أي الاشارة التي تخص المجاز، أي التي تجعل الكلمة مجازاً حتماً وهي القيد الذي يحول الكلمة عن معناها الحقيقي. المترجم.
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 32
المقدمة الثانية
قد يكون بديهياً ما هو نظري1 في الماضي. هكذا تحقق، ففي العالم ميل للاستكمال وبه يتبع العالمُ قانونَ التكامل. ولأن الانسان من ثمرات العالم واجزائه ففيه كذلك ميل الترقي المستمد من الميل للاستكمال. وميل الترقي هذا ينمو ويترعرع مستمداً من تلاحق الافكار الذي ينبسط بتكمل المبادئ واكتمال الوسائل، وتكمل المبادئ يلقي - من صلب الخلقة - بذور علوم الأكوان ملقحاً رحم الزمان التي تربي تلك البذور وتنبتها، فتستوي بالتجارب المتعاقبة التدريجية.
وبناءً على هذا، فان مسائل كثيرة في هذا الزمان قد أصبحت في عداد البديهيات والعلوم المعتادة، بينما كانت في السابق أموراً نظرية، شديدة الخفاء والغموض، ومحتاجة الى سرد البراهين، اذ نرى كثيراً من مسائل الجغرافية والفلك والكيمياء والهندسة العملية؛ يعرفها حتى صبيان هذا الزمان، بل يلعبون بها لعبهم بالملاعيب وذلك بتكمل المبادئ وبرقي الوسائط وبكشفيات تلاحق الافكار، علماً انها كانت نظرية وخفية على "ابن سينا" وامثاله من الفلاسفة. مع انه لو وزن "ابو الفلسفة" بمئات من فلاسفة هذا الزمان لرجحهم في الذكاء وقوة الفكر وكمال الحكمة وسعة القريحة. فالنقص اذاً ليس في "ابن سينا" فهو ابن الزمان، بل في أبيه الزمان.
أليس بديهياً انه لو لم تكتشف الدنيا الجديدة (أمريكا) - واشتهر به كولومبس - لاقتدر على اكتشافها والحاقها بهذه الدنيا القديمة أبسط الملاحين؟ اذ بدلاً من تبحر فكر المكتشف الأول واقتحامه المهالك تكفي الآن سفينة صغيرة وبوصلة.
ومع هذا يلزم اخذ الحقيقة الآتية بنظر الاعتبار وهي:
ان المسائل قسمان؛ قسم يؤثر فيه تلاحق الافكار، بل يتوقف عليه، كالتعاون في الماديات لرفع صخرة كبيرة.
_____________________
1 البديهي ما لا يحتاج الى نظر واستدلال ، والنظري هو ما يحتاج الى نظر واستدلال. المترجم.
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 33
والقسم الثاني؛ لا تأثير للتعاون وتلاحق الافكار فيه من حيث الاساس. فالواحد والالف سواء. كالقفز في الخارج من مرتفع الى آخر، او المرور من موضع ضيق. فكل فرد والكل سواء، ولا يجدي التعاون.
فبناءً على هذا القياس:
فان قسماً من العلوم هو كرفع الصخر، بحاجة الى التعاون وتلاحق الافكار. واغلب هذا القسم هو من العلوم المادية.
أما القسم الثاني، وهو الشبيه بالمثال الثاني، فتكمّله دفعي، او شبيه الدفعي. وأغلب هذا القسم هو من المعنويات ومن العلوم الالهية.
ولكن على الرغم من ان تلاحق الأفكار لايغير ماهية هذا القسم الثاني ولا يكمله ولا يزيده، الاّ انه يفيض وضوحاً وظهوراً وقوة في مسالك براهينه.
ويجب ملاحظة مايأتي:
ان من توغل كثيراً في شئ، أدّى به في الغالب الى التغابي في غيره.
فبناء على هذا:
من توغل في الماديات تبلّد في المعنويات وظل سطحياً فيها.
فنظراً الى هذه النقطة:
لايكون حكم الحاذق في الماديات حجة في المعنويات بل غالباً لايستحق سماعه.
نعم، اذا ما راجع مريض مهندساً بدلاً من طبيب، ظناً منه ان الطب كالهندسة. وأخذ بوصفة المهندس، فقد أخذ لنفسه تقريراً بنقله الى مستشفى مقبرة الفناء، وعزّى أقرباءه.
وكذلك مراجعة احكام الماديين في المعنويات التي هي الحقائق المحضة والمجردات الصرفة واستشارة ارائهم وافكارهم، تعني الاعلان عن سكتة القلب الذي هو اللطيفة الربانية، وعن سكرات العقل الذي هو الجوهر النوراني.
نعم! ان الذين يبحثون عن كل شئ في الماديات عقولهم في عيونهم، والعين عاجزة عن رؤية المعنويات.
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 34
المقدمة الثالثة
ان دخول طائفة من الاسرائيليات وقسم من الفلسفة اليونانية ضمن دائرة الاسلام وظهورها بزي الدين الجميل، شوشت الافكار. وذلك:
ان اولئك القوم، العرب النجباء، كانوا أمة أمية في الجاهلية. ولكن لمّا تجلّى الحق فيهم وتيقظ استعداد حسياتهم بمشاهدة الدين المبين، وجّهوا رغباتهم وميولهم كلها في معرفة الدين وحده. ولم يك نظرهم المتوجه الى الكون من نوع التفصيل الفلسفي بل نظر استطرادٍ للاستدلال ليس الاّ.
وما كان يلهم ذوقهم المرهف الطبيعي الاّ محيطهم الواسع الرفيع المنسجم مع فطرتهم، والقرآن الكريم هو وحده المربي لفِطَرهم الاصيلة النقية ومعلمها.. ولكن الامة العربية - بعد ذلك - أخذت تحتضن الاقوام الاخرى فدخلت معلومات سائر الملل وعلومها ايضاً حظيرة الاسلام، ثم وجدت الاسرائيليات المحرّفة منفذاً الى خزائن خيال العرب، فأسالت مجرىً الى تلك الخزائن، باسلام عدد من علماء اهل الكتاب كـ"وهب و كعب" فامتزجت الاسرائيليات بالافكار الصافية، فضلاً عن ذلك وجدت الاحترام والتقدير، لأن الذين اهتدوا من علماء اهل الكتاب قد تكاملوا بشرف الاسلام ونالوا به مكانة فائقة، لذا غدت معلوماتهم الملفقة كأنها مقبولة ومسلّم بها فلم تردّ، بل وجدت اذاناً صاغية لها من دون تنقيد، وذلك لعدم مصادمتها باصول الاسلام ولانها كانت تروى كحكايات لاأهمية لها.. ولكن يا للأسف. قبلت تلك الحكايات بعد فترة من الزمن كأنها حقائق وأصبحت سبباً لكثير من الشبهات والشكوك.
إذ ان هذه الاسرائيليات قد تكون مرجعاً لبعض ايماءات الكتاب والسنة، ومصدراً لبعض مفاهيمهما - بوجود علاقة - الاّ انها لا تكون معنى للآيات الكريمة والاحاديث الشريفة. بل لو صحت ربما تكون افراداً من معاني مايصدُق عليه مفهوم
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 35
الآية والحديث. ولكن المفتونين بالظاهر1 الذين لم يجدوا - بسوء اختيارهم - مصدراً غيره، ولم يتحرّوا عنه، فسّروا قسماً من الايات والاحاديث بتطبيق الاسرائيليات عليهما. والحال ان الذي يفسر القرآن ليس الاّ القرآن والحديث الصحيح، والاّ فلا يفسر القرآن بالانجيل والتوراة المنسوخة احكامهما والمحرفة قصصهما.
ان المعنى شئ ومايصدُق عليه المعنى شئ آخر. غير انه اقيم ما يمكن ان يكون مصداقاً لشئ مقام المعنى، فاختلط كثير من الامكانات والاحتمالات مع الوقائع.
ثم لما ترجمت الفلسفة اليونانية في عصر المأمون، لضمها الى الفكر الاسلامي، تلك الفلسفة الناشئة من منبع كثير من الاساطير والخرافات، حملت معها شيئاً من العفونات، وتداخلت في افكار العرب الصافية، فشوشت الافكار الى حدٍ ما، وفتحت طريقاً من التحقيق الى التقليد، كما انها صرفتهم عن الاستنباط بقرائحهم الفطرية من معدن ماء حياة الاسلام الى الافتقار بالتتلمذ على تلك الفلسفة المانعة للكمال.
نعم، فكما ان العلماء المحققين دوّنوا قواعد علوم العربية،عندما فسدت باختلاط الأعاجم، حفاظاً على سلامة مَلَكة الكلام المُضرى، كذلك حاول قسم من علماء الاسلام الناقدين فرز الفلسفة وتمييز الاسرائيليات لمّا دخلتا دائرة الاسلام.
ولكن يا للأسف لم يوفقوا كلياً، فلم يبق الأمر عند حده، اذ لما صرفت الهمة الى تفسير القرآن الكريم... طبّق عدد من الظاهريين منقوله على بعض الاسرائيليات، ووفقوا بين قسم من معقوله والفلسفة المذكورة، لما رأوا من شموله على المنقول والمعقول، وكذا الحديث النبوي، فبدلاً من ان يستخرج المقاصد من عين الكتاب والسنة استنبط طائفة مطابقةً وعلاقةً بين بعض نقلياتهما الصادقة وبعض الاسرائيليات المحرفة، وبين عقلياتهما الحقيقية وهذه الفلسفة الموهومة المموّهة، ظناً منهم ان هذه المطابقة والمشابهة تفسيرٌ لمعاني الكتاب والسنة وبيان لمقاصدهما!
_____________________
1 ترد في ثنايا الكتاب اصطلاحات مشابهة لهذا، فتارة: الظاهريون، واخرى : اهل الظاهر ، واخرى: المغرمون بالظاهر.. الخ. والمقصود: اولئك الذين يولون اهمية لظاهر الشئ دون حقيقته، ولا يمكنهم درك حقيقة الشئ، أو لا يعرفونها معرفة جيدة، او يتوقفون في ظاهر الشئ او النص دون تأويله وتوجيهه. المترجم.
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 36
كلا.. ثم كلا! لأن مصداق الكتاب المبين اعجازهُ. والقرآن يفسّر بعضه بعضاً، ومعناه فيه، وصَدَفُه درّ مثله لا قشر. وحتى لو فُرض ان القصد من اظهار هذه المطابقة هو تزكية ذلك الشاهد الصادق، فهو عبث أيضاً، اذ القرآن المبين أسمى وأغنى من أن يفتقر الى تزكية العقل والنقل اللذين ألقيا اليه المقاليد، لأنه إن لم يزكهما فشهادتهما لا تسمع.
نعم! يجب البحث عن الثريا في السماء لا في الارض. فابحث عن معاني القرآن في أصدافه، لا في جيبك الحاوي على اخلاط، فانك لن تجد شيئاً، وحتى لو وجدت فالقرآن يرفضه، اذ لايحمل طغراء البلاغة.
ومن المقرر: ان المعنى هو ما صبّته الالفاظ في الصماخ نافذاً في الذهن، منتشراً منه الى الوجدان، مفتحاً منه أزاهير الافكار. والاّ فليس هو ماتسرب في خيالك من احتمالات لكثرة توغل امور اخرى، او ماسرقته وملأت جيبك من أباطيل الفلسفة واساطير الحكايات، ثم أخفيته في معاطف الايات والاحاديث ثم اظهرته ممسكاً به في يدك تبرزه وتنادي: " هذا هو المعنى، هلموا لأخذه!!" فيأتيك الجواب: ياهذا! ان المعنى الذي استخرجته مزيف، عليه علامة التقليد يردّه نقاّد الحقيقة، وسلطان الاعجاز يطرد من ضرب سكته، وحكيم البلاغة يسجن وهمك في خيالك بشكوى الاية عليك، لما تعرضت الى نظامها ونظام الحديث. وطالب الحقيقة لا يقبله منك حتماً اذ يقول لك: ان معنى الاية درّ وهذا مَدَر ومفهوم الحديث مهج وهذا همج.
مَثل للتنوير: من أمثال الأكراد الادبية: ان رجلاً اسمه (علو) كان يسرق العسل، فاشير عليه بأن ستظهر سرقتك وينكشف أمرك. فجمع الزنابير في كوارة، لأجل الخداع والتمويه، فكان يسرق العسل ويدّخره في الكوارة، واذا ماسأله أحد يقول: هذا العسل صنعته نحلي، مهندسة العسل. ثم يحدث الزنابير بلغة مشتركة بينهما "فز فز ز وه هه نكفين ز من" أ ي: عليكم الدوي والطنين ومنى العسل!
فيا أيها المؤوّل بالتشهي والهوى، لا تتسل بهذا التشبيه، فهذا ضرب للمثل. اذ المعنى الذي أوردته ليس عسلاً بل سمّاً، فان تلك الالفاظ - القرآنية والنبوية - ليست نحلاً بل كالملائكة توحي أرواح الحقائق الى القلب والوجدان لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد.. ان الحديث النبوي معدن الحياة، وملهم الحقائق.
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 37
نحصل مما سبق:
ان الافراط والتفريط كلاهما مضران، وربما التفريط اكثر ضرراً الاّ ان الافراط اكثر ذنباً، لانه يسبب التفريط.
نعم! لقد فتح باب السماح بالافراط، فاختلطت الاشياء المزيفة بتلك الحقائق الرفيعة. ولما شاهد اهل التفريط والنقد غير المنصفين هذه المزيفات بين تلك الحقائق التي لا تقدر بثمن، ذعروا واشمأزوا، وظنوها كلها مزيفة تافهة ملوثة، ظلماً واجحافاً.. كلا وحاش لله...
ترى لو وجدت نقود مزيفة في كنز، ادخلت اليه من الخارج، او لو شوهد تفاح فاسد سقط الى بستان من غيره، أمن الحق والانصاف عدّ الكنز كله مزيفاً، او البستان كله فاسداً، ومن ثم تركهما لانهما ملوثان معيوبان مشوبان؟!
خاتمة:
أقصد من هذه المقدمة: ان الافكار العامة تريد تفسيراً للقرآن الكريم.
نعم! ان لكل زمان حكمه، والزمان كذلك مفسّر. أما الاحوال والاحداث فهي كشافة. وان الذي يستطيع ان يكون استاذاً على الافكار العامة هو الافكار العلمية العامة ايضاً.
فبناءً على هذا واستناداً اليه أريد تشكيل مجلس شورى علمي، منتخب من العلماء المحققين، كل منهم متخصص في علم. ليقوموا بتأليف تفسير للقرآن الكريم بالشورى بينهم، تحت رياسة الزمان الذي هو مفسّر عظيم، ويجمعوا المحاسن المتفرقة في التفاسير، ويهذّبوها ويذهّبوها.
وهذا الامر مشروط بان تكون الشورى مهيمنة في كل شئ. والافكار العامة مراقبة. وحجية الاجماع حجة عليه.
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 38
المقدمة الرابعة
الشهرة تملّك الانسان ما لا يملك؛ اذ من سجايا البشر؛ اسناد الشئ الغريب او الثمين الى من اشتهر بجنسه، لإظهاره اصيلاً. أي: لأجل ان يروّج كلامه ويزينه أو لئلا يكذََّب، او لاغراض اخرى، يحيل نتائج افكار أمة او محاسن اطوارها الى شخص ما - ظلماً وعدواناً - ويشاهد صدورها عنه! بينما ذلك الشخص نفسه من شأنه ردّ تلك الهدية المهداة له ظلماً وتعسفاً؛ اذ لو عرض على شهير في صنعة جميلة او خصلة راقية امرٌ، وقيل له - بغير حق -: ان هذا من صنع يدك - مثلاً- فانه يردّه حتماً ويتبرأ منه ويشمئز، قائلاً حاشَ لله، ذلك لان نظره النافذ في ماوراء الحسن الظاهر يبصر اخلال ذلك الامر بجمال تلك الصنعة الناشئ من تناسقها وانتظامها.
فبناءً على هذه السجية، واستناداً الى القاعدة المشهورة: "اذا ثبت الشئ ثبت بلوازمه" يضطر الناس الى اسناد قوة عظيمة وعظمة فائقة وذكاء خارق.. وامثالها من لوازم خوارق العادات الى ذلك الشخص الشهير، ليوائم مافي خيالهم، وليمكّن له ان يكون مرجعاً ومصدراً لجميع ما ينسب اليه من أمور خارقة. فيتجسم ذلك الشخص في اذهانهم اعجوبة من اعاجيب الخلق.
فان شئت فانظر الى صورة "رستم بن زال" المعنوية، الذي نما في خيال العجم، ترى العجب العجاب. فانه لما اشتهر بالشجاعة اغتصب مفاخر الايرانيين وأغار عليها بقوة الشهرة، وبحكم الاستبداد الذي لم يتخلص منه الايرانيون قط. وهكذا ضخمت تلك الشخصية واستعظمت في الخيالات.
ولما كان الكذب يردفه كذب ويسوق اليه، استلزمت هذه الشجاعة الخارقة للعادة، عمراً خارقاً، وقامة خارقة، وما يكتنفهما من لوازمهما!.. حتى تجسم ذلك الخيال في الذهن وهو يصرخ: "انا نوع منحصر في شخص". لامن ابناء البشر بل ككائن خرافي يدور في حكايات الناس ويتقدم الخرافات فاتحاً الطريق الى امثاله.
صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 39
يا من يريد رؤية الحقيقة مجرّدة! انعم النظر في هذه المقدمة؛ لان باب الخرافات ينفتح من هذا الموضع، وباب التحقيق (العلمي) ينسد به، زد على ذلك ففي هذه الارض القاحلة الجرداء يضيع على الانسان أخذ العبرة من القصة، ويفوته البناء على اسس المتقدمين كما يمليه الترقي، ولايتجرأ على التصرف في ميراث الاسلاف ولا الزيادة عليه.
فان شئت قل للخواجة نصر الدين الشهير بـ(جحا الرومي): أهذه الاقوال الغريبة كلها لك؟ فسيكون جوابه: "هذه الاقوال تملأ المجلدات، وتحتاج الى عمر مديد. واقوالي كلها ليست من نوادر الكلم، فأنا عالم من العلماء تسعني زكاة ما نسبوا اليّ من اقوال. اما الباقي فارفضه واردّه لانها تقلب ظرافتي الى التصنع".
فيا هذا! من هذا العرق تنبت الخرافات والموضوعات، ومنه تتفرع، وهو الذي يزيل قوة الصدق.
خاتمة:
ان احساناً يزيد على الاحسان الالهي ليس باحسان.
ان حبة من حقيقة تفضل بيدراً من الخيالات.
الاطمئنان والقناعة بالاحسان الالهي في التوصيف فرض.
يجب الاّ يخل بنظام المجتمع مَن كان داخلاً فيه.
أصل الشئ تبيّنه ثمرته. شرف الشئ في ذاته لا في نسله.
اذا اختلطت في بضاعة، بضاعةٌ اخرى، فانها تنقص من قيمة الاولى وان كانت الثانية قيّمة ونفيسة، بل تسبب حجزها.
والان، بناءً على هذه النقاط، أقول:
ان اسناد قسم من الاحاديث الموضوعة الى "ابن عباس" رضي الله عنه وامثاله من الصحابة الكرام، لأجل الترغيب او الترهيب، اثارةً للعوام وحضاً لهم، انما هو جهل عظيم.
نعم! ان الحق مستغن عن هذا، والحقيقة غنية عنه. فنورهما كافيان لإنارة القلوب. تسعنا الاحاديث الصحيحة المفسّرة الحقيقية للقرآن الكريم ونثق بها ونطمئن الى التواريخ الصحيحة الموزونة بميزان المنطق.