هذه المزاوجة في ترتيب القوافي هي التي سمحت بفصلها , ومكّنت من أن يكون منها قصائد عدّة .
ولاشكّ أنّ هذا التفكّك في أجزاء القصيدة هو علّة تركّب القصائد الكثيرة من القصيدة الواحدة , ولقد قرأنا أنّ شاعراً عمل قصيدة , واشتغل بإحصاء الوجوه التي تُنظر بها فبلغت في عينه مليون وجه , وذاك علم من الأرقام في قفر من الكلام .
(1)
2- ما لا يستحيل بالانعكاس :
سمّاه ابن حجّة الحموي بهذه التسمية , وذكر أنّ جماعة سمّوه ( بالمقلوب ) , أو ( بالمستوي ) , ودعاه السكاكي بـ ( مقلوب الكلّ ) , وعرّفه الحريري في مقاماته بـ ( ما لا يستحيل بالانعكاس ) .
وهو أن يكون عكس البيت , أو عكس شطره كطرده , وهذا النوع ـ كما زعم ابن حجّة ـ غايته أن يكون رقيق الألفاظ , سهل التركيب , منسجماً في حالتي النثر والنظم .
جاء منه في القرآن الكريم : {
كلٌّ في فلك } , و {
ربّك فكبّر } , ومن الكلام الذي رقَّ لفظه (
أرضُ خضرا ) , وأورد الحريري في مقاماته (
ساكب كاس ) , وزاد في العدّة (
كبر رجاء أجر ربّك ) , و (
لذ بكلّ مؤمل إذا لم ّوملك بذل ) .
ولقد نجح بعضهم في استنباط بعض جمل طريفة , وأوردها صاحب خزانة الأدب , ومنها (
سور حماه بربّها محروس ) , وحادثة العماد مشهورة ؛ عندما رآه شخص فقال له : "
دام علا العماد " , وهي تقرأ عكساً , فأجابه العماد : "
سر فلا كبا بك الفرس " وهي أيضاً تقرأ عكساً .
ومن المنظوم الرائق قول القاضي الأرَّجاني :
(2)
مودّته تدوم لكلّ هول = وهل كلٌّ مودّته تدوم
ولقد أولع المتأخّرون بهذه الصنعة فجاء أحدهم بقصيدة كلّها على هذه الشاكلة , ومن أبياتها :
(3)
قمر يفرط عمداً مشرق = رشّ ماء دمع طرف يرمق
قد حلا كاذب وعد تابع = لعباً تدعو بذاك الحدق
قبس يدعو سناه إن جفا = فجناه أنس وعد يسبق
قرفي إلف نداها قلبه = بلقاها دنف لا يفرق
3- الطرد مدح والعكس هجاء :
وهو نوعان ؛ الأول عكسٌ في الحروف , والثاني عكسٌ في الكلمات كاملة .
مثال النوع الأول :
أ – الطرد مديح :
باهي المراحم لابسٌ = كريماً قدير مُسْند
بابٌ لكلّ مؤمّلٍ = غُنْمٌ لَعَمْرك مُرْفد
ب – العكس هجاء ( في جميع الحروف ) :
دَنسٌ , مريد , قامر = كسب المحارم لا يهاب
دَفِرٌ , مِكَرٌّ , مُعْلَم = نَغْلٌ , مُؤمل كلّ باب
ومثال النوع الثاني :
أ – الطرد مديح :
حَلموا , فما ساءت لهم شيمٌ = سمحوا , فما شحّت لهم مِنَنُ
سَلموا , فما زلّت لهم قدم = رَشدوا , فما ضلّت لهم سُنن
ب – العكس هجاء ( في الكلمات كاملة ) :
مِننٌ لهم شحّت , فما سمحوا = شِيم لهم ساءت , فما حلموا
سنن لهم ضلّت , فما رشدوا = قدمٌ لهم زلّت , فما سلموا
4- الطرد الأفقي مدح والشاقولي هجاء :
من ذلك قول أحد الشعراء :
(4)
إذا أتيت نوفل بن دارم = أمير مخزوم وسيف هاشم
وجدته أظلم كلّ ظالم = على الدّنانير أو الدّراهم
وأبخل الأعراب والأعاجم = بعرضه وسرِّه المكاتم
لا يستحي من لوم كلّ لائم = إذا قضى بالحقّ في الجرائم
ولا يراعي جانب المكارم = في جانب الحقّ وعدل الحاكم
يقرع من يأتيه سِنّ نادم = إنْ لم يكن من قدم بقادم
هذه الأبيات إذا قرئت على وضعها الأفقي أدّت شيئاً من معاني المديح لذلك الرّجل المدعو ( نوفل بن دارم ) , وإذا حذف الشطر الثاني من كلّ بيت , وأحلّ محلّه الشطر الأول من البيت الذي يليه انقلبت هجاء , وكانت الصورة التالية :
إذا أتيت نوفل بن دارم = وجدته أظلم كلّ ظالم
وأبخل الأعراب والأعاجم = لا يستحي من لوم كلّ لائم
ولا يراعي جانب المكارم = يقرع من يأتيه سِنّ نادم
5- أشعار التبادل والمتواليات :
لقلبي , حبيب , مليحٌ , ظريف = بديعٌ , جميل , رشيقٌ , لطيف
هذا البيت يقرأ على أربعين ألف بيت من الشّعر وثلاثمئة وعشرين بيتاً ( 40,320 ) , وذلك أنّ أجزاءه ثمانية , يمكن أن ينطق بكلّ جزء من أجزائه مع الجزء الآخر , فتنتقل كلّ كلمة ثمانية انتقالات , فالجزءان الأوّلان ( لقلبي حبيب ) يتصوّر منهما صورتان بالتقديم والتأخير , ثمّ خذ الجزء الثالث ( مليح ) فيحدث منه مع الأوّلين ست صور وهي : (1) لقلبي حبيب مليح , (2) لقلبي مليح حبيب , (3) حبيب لقلبي مليح , (4) حبيب مليح لقلبي , (5) مليح لقلبي حبيب , ( 6) مليح حبيب لقلبي .
والذي لاحظناه أنّ له ثلاثة أحوال : تقديم , وتأخير , وتوسّط لكلّ كلمة , فإذا ضربنا أحواله في الحالين يكون ستة .
ثمّ خذ الجزء الرابع , وله أربعة أحوال , فاضربها في الصورة المتقدّمة وهي الستّة التي قبلها تكون أربعة وعشرين .
ثمّ خذ الجزء الخامس تجد له خمسة أحوال , فاضربها في الصور المتقدّمة وهي أربعة وعشرون تكون مئة وعشرين .
ثمّ خذ الجزء السادس تجد له ستّة أحوال , فاضربها في مئة وعشرين تكون سبعمئة وعشرين .
ثمّ خذ الجزء السابع تجد له سبعة أحوال , فاضربها في سبعمئة وعشرين تكون خمسة آلاف وأربعين .
ثمّ خذ الجزء الثامن تجد له ثمانية أحوال , فاضربها في خمسة آلاف وأربعين تكون أربعين ألفاً وثلاثمئة وعشرين بيتاً .
ولاشكّ أنّه كلّما زادت كلمات البيت زادت المتوالية , وواضح أنّ كلّ لفظ يجب أن يكون وزنه العروضي كوزن باقي الكلمات .