نتوقف اليوم مع عبقري مسلم أجرى بحوثاً مبتكرة في الفلك والجبر والمثلثات ولاتزال أرصاده محل إعجاب العلماء في العالم حتى الآن، بل إنه أعظم علماء عصره، وإذا أخذنا الظروف التي عاش فيها في الاعتبار لاعتبرناه أعظم فلكي في العالم، لما قدمه من خدمات للبشرية، ومما يذكر أن مدينة الرقة احتفت بهذا العبقري الفذ، فأقامت له نصباً تذكارياً، وأطلقت اسمه على ساحة ومسرح وحديقة بالقرب من سور الرقة الأثري .

إنه أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان البتاني الحراني الصابئي، حفيد العالم المسلم الكبير ثابت بن قرة . وقد سمي البتاني نسبة إلى بتان من قري حران، وسمي الحراني نسبة إلى الأسر الحرانية التي قضى معظم حياته معها، وسمي الرقي نسبة إلى مدينة الرقة التي قضي فيها الشطر الأعظم من عمره . وسمي الصابئي نسبة إلى الديانة الصابئية التي كانت أسرته تقوم بتدريسها، مع أنها أسرة مسلمة .


ولد البتاني في عام 235 هـ (850م)، في بتان بإقليم حران على نهر البلخ، أحد روافد نهر الفرات شمال غرب العراق، وتوفي في عام 317 هـ (929م) بالقرب من سامراء بالعراق، وقيل إنه توفي في دمشق بسوريا . ويذكر الدكتور علي عبد الله الدفاع في كتابه »نوابغ علماء العرب والمسلمين في الرياضيات« أن البتاني، كان له تأثير في العلوم عامة في القرن الرابع الهجري الموافق العاشر الميلادي حتى عرف بأنه الموسوعة العلمية لعلم الفلك، وهو أول من استعمل المعادلات المثلثية، واهتم اهتماماً كبيراً بعلم التنجيم حتى إنه ترجم معظم مؤلفات اليونانيين في هذا الحقل مثل »مفتاح النجوم« . كما عرف عند زملائه بأرصاده الدقيقة التي قام بها في مراصد الرقة، وإنطاكية، مثل قياس الزمن برصد ارتفاع الشمس، وطول السنة الشمسية، حيث قال إن أهل بابل وجدوا أن طول السنة الشمسية 365 يوماً و6 ساعات و12 دقيقة، والمصريين اعتبروها 365 يوماً و6 ساعات فقط . وكان عند بطليموس 365 يوماً و5 ساعات و47 دقيقة و30 ثانية، وحسبها البتاني بدقة فوجدها 365 يوماً و6 ساعات و14 دقيقة و26 ثانية، وهذه القيمة قريبة جداً مما وصل إليه العلماء المعاصرون .

استوعب البتاني المؤلفات الفلكية المتوافرة في عصره، خصوصاً مجسطي بطليموس الذي كتب في ما بعد تعليقاً عليه ولأنه انتقد بعض آراء بطليموس التي وردت فيه وصححها، فقد وصفه بعض علماء الغرب بأنه »بطليموس العرب«، علاوة على أن البتاني وصف الآلات الفلكية وصفاً دقيقاً، وشرح طريقة استعمالها، وشرح أهمية علم الفلك .


وللبتاني الكثير من المؤلفات أبرزها: الزيج الصابئي، مختصر لكتب بطليموس الفلكية، كتاب عن دائرة البروج والقبة الشمسية، رسالة في تحقيق أقدار الاتصالات، كتاب »تعديل الكواكب«، كتاب في علم النجوم، كتاب في علم الفلك .

ولعل »الزيج الصابئي« هو أشهر مؤلفات البتاني وقد وضعه في عام 287 هـ - 900م، وضمنه أرصاداً قام بها في الرقة وإنطاكية، ويحتوي »الزيج الصابئي« على عمليات حسابية وقوانين عددية، وجداول فلكية، بها مايخص كل كوكب وطريقة حركته، تعرف منها مواضع الكواكب في أفلاكها، ويمكن استعمالها لمعرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية، ومعرفة »الأوج« وهو أبعد نقطة للكوكب عن الأرض، و»الحضيض« (وهو أقربها من الأرض) . وعموماً، فإن كتاب »الزيج الصابئي« يحتوي معلومات صحيحة ودقيقة، موزعة على سبعة وخمسين باباً، وتدين أوروبا لهذا الكتاب الذي صحح تصوراتها عن المحيط الهندي حتى عهد فاسكو دي جاما، ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، وأخذ منه كوبرنيكوس في القرن السادس عشر الميلادي، وكان كوبرنيكوس يذكر البتاني كثيراً في مؤلفاته، وقام بترجمة »الزيج الصابئي« واضعاً له عنوان »في علم النجوم« وطبع في نورمبرج في عام 1537م، كما ترجم إلى الاسبانية بأمر من ملك قشتالة العالم الفونسو العاشر . وقام نالينو في ميلانو بتحقيق هذا الكتاب ونشره في عام ،1907 وقبله قام العالم الفرنسي ديلامبير بنشر كتاب في عام 1891م خصص جزءاً كبيراً منه لتحليل »الزيج الصابئي« .

وأوضح سمير عرابي في كتابه »سلسلة علماء العرب والمسلمين« أن معظم علماء الفلك المحدثين اعترفوا للبتاني بأنه أول من وضع جداول فلكية على مستوى كبير من الأهمية والإتقان والدقة، واستخدم فيها حساب المثلثات الذي كان جديداً في ذلك الوقت، وسخره البتاني لخدمة علم الفلك، وخالف اليونانيين في كثير من حلولهم الهندسية واستبدلها بحلوله الجبرية . كما استخدم المثلث المستوى لمعرفة ارتفاع الشمس، وحقق مواقع كثير من النجوم، وصحح بعض حركات القمر والكواكب السيارة، وخالف بطليموس في إثبات أوج الشمس .

ذكر معجم ماكميلان لعلم الفلك البتاني ضمن قائمة مشاهير علم الفلك عبر التاريخ وعده الفلكي الفرنسي جوزيف لالاند واحداً من أبرز عشرين فلكياً في تاريخ البشرية .






http://www.alkhaleej.ae/portal/95b96a03-2d95-42f7-a0af-d3fd0f36fcf5.aspx