"ومن فهم دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقف على سرِّ التوحيد، وتجمَّل من سيده بالمزيد، وهو:
"اللّهُمّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ. وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ. لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ. أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" (1) . "تبارك اسمك ، وتعالى جدُّك ولا إله غيرك".
استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – بجمال الله من جلال الله، وبعفو الله من عقاب الله، فلم يستعذ من أثر من الآثار، أو من شر من الأشرار، ولكنه كشف الستار عن حقيقة الأمر، فالخلق مظاهر للأسماء الإلهية؛ فاسم:"المنتقم" قد يظهر معناه في فاجر يسلطه الله عليك، يغيثك على يديه، إذ الأمر منه وإليه.
ثم قال:" وأعوذ بك منك" وهذا مشهد فوق الجلال والجمال، يعني: أعوذ من ذاتك بذاتك.
ثم قال: " لا أحصي ثناء عليك" وهذا كلام سيد الخلق، والذي يحصي الثناء على الله هو الله، وما عرف الله إلا الله، قال بعض العارفين:
"إن لله رجالاً سطعت عليهم أنوار الجلالة، فسبحوا في بحارها، وانجذبوا بتيَّارها، وأنسوا بجمالها، واستمدُّوا من كمالها. فإن قاموا؛ فبالله. وإن نطقوا؛ فمن الله. وإن سكتوا؛ فلله. وإن نظروا؛ فإلى أنوار الله المتجلية الدَّالَّة على علاه. وإن سمعوا ؛ فمن الله. لا يرون شيئاً إلا ويجذبهم إليه، حتى قاموا بالأرواح لديه، وكيف لا؟ وقد صرَّح القرآن حيث قال تعالى. { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه }(2) .
فلا تقع عيون الأرواح إلاعلى وجهٍ منـزَّهٍ قريبٍ في علوِّه، قُدُّوسٍ في دنوِّه، لا تحيزه الأكوان، لأنه فوق الإمكان، ولكن متى شاء أن يتجلَّى لعبده أشرق في قلبه نور العناية، فلاحت له مواطن البداية، فتشهد الباقي بالباقي، وكان الحقُّ للمحبوب واقي.
قال الإمام أبو العزائم - رضي الله عنه -:
خمر (3) الجلالة للأرواح قد دارا = من اقها صار محبوباً ومختارا
كم جنَّنت أنفساً ، كم حيَّرت ملكا = دارت بفضل إله العرش مدرارا
1
2خمر (3) الجلالة للأرواح قد دارا مـن اقهـا صـار محبوبـاً iiومختـارا
كم جنَّنت أنفساً ، كـم حيَّـرت iiملكـا دارت بفضـل إلـه العـرش iiمـدرارا
والجلالة: اسم الله ، فقد تكرر في القرآن الكريم كثيراً، ولم يجرؤ أي جبار أن يتسمَّى به لأن العزة تصونه لصاحبه تعالى. قال تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }(4) .
أسأل الله أن يدخلنا في زمرة عباده الذين قال في حقهم: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } (5) .
قال بعض العارفين في قوله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } (6) .
يعني: اعبد حضرة الرب المتنـزِّل لك بالإنعام والإحسان حتى تتجلَّى لك حضرة الألوهية، فتعبد الله لأنك في عبادة الرب ، تلاحظ الكرم، والنعم، وإذا أتاك اليقين تترقَّى إلى شهود عظمة الألوهية، فتعبده لذاته لأنه أهلٌ للعبادة.
اللهمَّ جمِّلنا بتلك الحقائق، واسقنا من الرائق، وكمِّل ارواحنا بالدقائق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم." اهـ
اقتباس:=========================== الحاشية ====================
(1) : روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللّهُمّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ. وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ. لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ. أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ". صحيح مسلم ورواه الأربعة [أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه].
(2) : سورة البقرة – الآية 115.
(3) : الخمرة في اصطلاح ساداتنا الصوفية رضي الله عنهم يطلقونها على الذات العلية قبل التجلي، وعلى الأسرار القائمة بالأشياء بعد التجلي، فيقولون : الخمرة الأزلية تجلَّت بكذا، ومن نعتها كذا، وقامت بها الأشياء تستراً على سر الربوبية ، وعليها غنى سيدي سلطان العاشقين ابن الفارض رضي الله عنه وأرضاه في قصيدته المشهورة بالخمرية، وإنما سمَّوها :"خمرة" لأنها إذا تجلَّت للقلوب غابت عن حسها كما تغيب بالخمرة الحسية، وقد يطلقونها على نفس السكر، والوجد، والوجدان، يقولون: كنا في خمرة عظيمة، أي في غيبة عن الإحساس كبيرة، وعلى هذا غنى العارف بالله الششتري رضي الله عنه حيث قال:
خمرها دون خمري *** خمرتي أزلية
أي: سكر خمرة الدوالي دون خمرتي، وأما الكأس الذي تشرب منه هذه الخمرة فهو كناية عن سطوع أنوار التجلي على القلوب عند هيجان المحبة، فتدخل عليها حلاوة الوجد حتى تغيب ، وذلك عند سماعٍ، أو ذكر، أو مذاكرة، وقيل: الكأس هو قلب == الشيخ، فقلوب الشيوخ العارفين كؤوس لهذه الخمرة، يسقونها لمن صحبهم، وأحبَّهم، والشرب حضور القلب، واستعمال الفكرة والنظرة، حتى تغيب عن وجودك في وجوده، هو السكر ، فالشرب والسكر متصلان في زمن واحد في هذه الخمرة، بخلاف خمرة الدنيا، وقال القطب سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه: المحبة أخذة من الله قلب من أحب بما يكشف له من نور جماله، وقدس كمال جلاله، وشراب المحبة مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاقن والأنوار بالأنوارن والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت، والأفعال بالأفعال، ويتسع النظر لمن شاء الله عز وجل ، والشراب يسقي القلوب والأوصال والعروق، من هذا الشراب ، ويكون الشرب بالتدريب بعد التدريب، والتهذيب بعد التهذيب، فيسقى كُلٌّ على قدره، فمنهم من يسقى بغير واسطة، والله تعالى يتولَّى ذلك منه، وهذا نادر. ومنهم من يسقى من جهة الوسائط كالملائكة والعلماء، والأكابر من المقربين. والكأس مغرفة الحق يغرف بها من ذلك الشراب الطهور المحض الصافي لمن شاء من عباده المخصوصين.
(4) : سورة مريم - الآية 65.
(5) : سورة الإنسان - الآية 6.
(6) : سورة الحجر - الآية 99." اهـ 198
(يتبع إن شاء الله تعالى مع: الدُّعـــــاءُ..... )