الْمَلِكُ جَلَّ جَلالُه
"هو الظَّاهر بعزِّ سلطانه، الغنيُّ بذاته، المتصرِّف بصفاته في أكوانه (1) .
ملك الأرواح وبيده زمامها، وقهر الأشباح فأحوجها إليهن الكل إليه فقراء، وهو الملك يفعل ما يشاء. من ادَّعى الملك معه حاربه، ومن عرف أنه لا ملك له مع سيده خصَّه بنعمته (2) .
امتحن الله العباد فأعطاهم الدار والعقار فاغترُّوا بهذه النسبة ، وغفلوا عن سرِّ القضية، فإن العبد وماملكت يداه لسيده.
أنت في المملكة الإلهية ضيف فلا تحكم على صاحب الدار؛ فما لك معه تصريف، وتأمَّل في عظمة الملك القادر الحكيم، كيف نظَّم ملكه، وأوقف كل كائن عند رتبته.
وانظر إلى البحار وما فيها من العوالم، والهواء وما فيه من الطيور والجراثيم، والأرض وما في طواياها من الخلائق والحشرات، كيف خضع الكلُّ لعزَّة سلطانه، ويتنعم الكلُّ في فضل حنانه.
وانظر إلى فرعون كيف غرَّته ذرة من الملك فادَّعى أنه "ملك"!، قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْر} (3) .
وانظر لسيدنا موسى، العبد الفقير إلى سيِّده الذي كان يرعى الغنم لسيدنا شعيب، كيف كانت عاقبة الأمر.
وانظر إلى الفرق بين أهل الصبر وأهل الكفر، فقد أغرق الله فرعون وجنوده لأنه - سبحانه وتعالى - غيور، ومكَّن لسيدنا موسى في الأرض لأنه - سبحانه وتعالى - " شكور".
وانظر إلى قارون لمَّا غرَّه مظهر الملك، ونسي أن ما عنده وديعة؛ فقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } (4) .
فخسف الله به الأرض وجعله عبرة؛ فما أخذهم"الملك" إلا لسوء أدبهم معه، وهو غيور، وإن كانت حضرة الحلم تبدي شئونها، ولكن لا بدَّ من الأخذة التي تكشف الحقيقة.
وقد روي في الحديث القدسي: ( أنا ملك الملوك وقلوب الملوك بيدي، فإن أطاعوني عبادي حوَّلت قلوبهم بالرحمة، وإن عصوني عبادي حوَّلت قلوبهم عليهم بالنقمة) (5) .
اقتباس:==================== الحاشية ===================
(1) : قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله : إن الملك هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود ، ويحتاج إليه كل موجود ، بل لا يستغني عنه شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في وجوده ، ولا في إبقائه ، بل كل شيء فوجوده منه ، أو مما هو منه ، وكل شيء سواه فهو مملوك له في ذاته وصفاته ، وهو مستغن عن كل شيء ، فهذا هو الملك المطلق . والملك الحقيقي لا يكون إلا لله وحده ، فلا مالك في الحقيقة إلا الله ، وفي غيره مجاز ، واليقين بأن الله مالك كل شيء هو الذي يعلم الإنسان كيف يفزع إلى ربه ملك الملوك في كل حال وفي كل أمر. قال بعض الأمراء لبعض الصالحين: سلني حاجتك ؟ فقال له: كيف تقول لي هذا ولي عبدان أنت عبدهما ؟ قال الأمير: ومن هما ؟. قال الرجل الصالح : الشهوة والغضب! غلبتهما وغلباك، وملكتهما ملكاك!.
فمن عرف هذه الأحوال تخلص من مساكنة الأشباح، وانفرد بمالك النفوس والأرواح ، وقطع رجاءه عن الخلائق، وسلم عن الآفات والعلائق، ولهذا المعنى قال بعض المشايخ : أيجمل بالحر المريد أن يتذلل للعبيد وهو يجد من مولاه ما يريد!! .
(2) : وقال الإمام القشيري رحمه الله: أن من عرف أن الله تعالى متفرد بالملك أبى أن يذل لمخلوق، لأن معرفته بحقيقة ملكه توجب التجرد له في التقرب إليه، جاء عن بشر الحافي رضي الله عنه: رأيت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه في المنام، فقلت له: عظني يا أمير المؤمنين.فقال: ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء طلباً لثواب الله تعالى، وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بالله جل جلاله. فقال بشر: زدني يا أمير المؤمنين:قال الإمام :
قد كنت ميتاً فصرت حياً = وعن قريب تصير ميتا
عزَّ بدار الفـــناء بيت = فابـن بدار البقاء بيتا
1
2قد كنت ميتاً فصرت حياً وعن قريب تصير iiميتـا
عـزَّ بـدار الفنـاء iiبـيـت فابـن بـدار البقـاء بيـتـا
(3) : سورة الزخرف - الآية 51.
(4) : سورة القصص - الآية 78.
(5) : عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يقول: أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك وملك الملوك قلوب الملوك بيدي،وإن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد إذا عصوني حولت قلوبهم عليهم بالسخط والنقمة فساموهم سوء العذاب،فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك ولكن اشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع،أكفكم ملوككم". رواه الطبراني في الأوسط وفيه وهب بن راشد وهو متروك. انظر: مجمع الزوائد. للحافظ الهيثمي 5/23 كتاب الخلافة. (بابان في النهي عن سب السلطان). باب قلوب الملوك بيد الله تعالى فلا تسبوهم. " اهـ 4/250
(يتبع إن شاء الله تعالى ..... )