الإمام الرائد: زوبعة حول رابعة العدوية
أقدم للأخوة هذه الكلمة لشيخنا الإمام محمد زكي إبراهيم (ت 1998) رائد العشيرة المحمدية رحمه الله تعالى.
مصدرها: مجلة المسلم مجلة العشيرة المحمدية، عدد غرة المحرم سنة (1382هـ)، 4 يونية سنة (1962م) العدد السادس، السنة الثانية عشرة. تحتوي على كشف شبهات حول موضوع قديم متكرر..
قال رضي الله عنه:
أصدرت إحدى الجمعيات المذهبية أخيرًا بضعةَ أعداد من مجلتها، وقفًا على محاولة هدم التصوف وأهله، تحقيقًا لتكليفها ووظيفتها المعروفة، ويسألني في ذلك بعضُ أبنائي في الله، وقد قلت: إنه إفلاسٌ من معالجة الموضوعات الهامة، وفقرٌ في كفاية اختيار الأنسب والأنفع للناس، وقد كان في كل هذه الأعداد كلامٌ مكرورٌ مملولٌ عن رابعة، وعن موقف الأستاذ العقاد من الدفاع عنها، وقد كانت الزوبعة في كستبان كما يقولون، حول قضيتين صغيرتين شكلاً وموضوعًا، فهما لا تتحملان كل هذا اللتِّ والعجن، ولا كل هذا التهويل، واستهلاك الوقت الطويل.
أما القضية الأولى: فكيف كانت تصلي رابعة ألف ركعة في الليلة؟
وأما القضية الثانية : فكيف كانت لا تطلب بعبادتها دخول الجنة أو البعد عن النار؟
فأمَّا عن القضية الأولى : فقد حلَّها الأستاذُ العقاد - من وجهة نظره - مقررًا أن الألف ركعة قد تستغرق نحو (16) ساعة، وهو وقت غير كثير على محبٍّ مشغوف بعبادةِ حبيبه، منقطع لطلبه وتَرَضِّيه .
وكان للآخرين على هذا التوجيه اعتراضٌ بِلَغْوٍ كثير، ولغط منحل، وعندنا أنَّ المسألةَ على علاتها، أمرٌ هيِّن، غاية في البساطة، شأن كل بسائط الأمور، التي تدور أمثال هذه الجماعة حولها وتمور، وتفور وتثور، وتمور وتخور... فإنَّ الذي نَقَلَ أنَّ رابعةَ كانت تصلي ألف ركعة في الليلة لم يُرِد أبدًا التحديد النصيَّ بالمئات العشرة، التي تشكِّل الألف العدديَّ بالتمام والكمال، وإنما أراد الإخبار بمطلق الكثرة المطاقة لإنسان متعود وَلْهَان، يَتَعشَّقُ طولَ مناجاة الحبيب، والتمتع بتكرار الضراعة إليه، وهو في عبارته هذه يجري على مقتضى لغة العرب، وعلى ما يتفاهم به الناس عادة عند إرادة المبالغة، فهم يذكرون في مثل هذا المقام عددًا كبيرًا، ولا يريدون أبدًا مفهومه الواقعي محددًا بالتنصيص العددي .
ولهذا التعبير أصل قرآني، فضلاً عن شواهد الشعر والنثر الوفيرة، ومن أمثاله في القرآن قوله تعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [التوبة :80]، فليس المراد الاستغفار محصورًا بالعدد الحسابي، الذي تدلُّ عليه السبعات العشر، ولكن المراد هو الكثرة المطلقة، سواء وصلت إلى السبعين أو زادت أو نقصت، وهكذا يكون قول القائل إن رابعة كانت تصلِّي ألف ركعة في الليلة محمولاً على تصوير الكثرة، حتى ليظن الظان مثلاً أنها تصلي ألف ركعة أو تكاد.
ثم إنه قد ورد النص على الترغيب في القيام من الليل، ولم يَرِدْ نص بتحديد عدد الركعات لا أمرًا ولا نهيًا، فالأمر واسع لا التزام فيه بعدد محدد، وبهذا ينحسم اللجاج التافه حول هذه القضية.
ثم إن هناك ردًّا آخر يؤمن به أهل القلوب في هذا الباب، فقد يكرم الله القادرُ عبدَه بالنَّشرِ والطي الروحي، حتى يتسع وقته لما لا يتسع له وقت الناس في العادة، وتقريب ذلك يكون بمثل ما يراه الإنسان في سِنَةٍ من النوم لا تزيد على لحظات، ولو كان ما رآه في هذه السِّنَةِ ماثلا قي الواقع الحسي ما كفته أيام، وهذه من شئون الغيب، وما يكرم الله به أهله من الخوارق ، ولا أحب الدفع بهذا اللون الروحي في هذا المقام، وبخاصة مع من لا يسلم لله بقدرة في غير المحسوس .
هذه واحدة،
وأما القضية الثانية : فأهون من الأولى؛ فإن التعبد ابتغاء رضوان الله منصوص عليه، مكرر في الكتاب والسنة، ومتى ما أدرك العبد مقام الرضا الإلهي فقد ضمن الجنة، ونجا من النار، مِن أَسْلَمِ الأبواب، فاسترضاء رب الجنة والنار أقرب سبيل إلى التمتع بالجنة، والنجاة من النار، والعبد المؤدب العبد المبصر لا يشترط على مولاه عوضًا بعوض، ولا يتاجر معه بعبادته : عملا بجزاء، وشيئًا بشيء، ولكنه يطيعه تعالى، لأنه أهل للطاعة، فطاعته واجبة لذاته، دون نظر إلى ثمن ومعاوضة، فتلك - ( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) [النحل :60]، -معاملة الأنداد عرض وطلب، وأخذ وعطاء، وما كذلك يكون أدب المعاملة بين عبد ومعبود، وإله ومألوه، فإذا كانت رابعة تعبد الله، لأنه أهل العبادة ولأنه لا تنصرف العبادة إلا إليه بالاقتضاء الذاتي، ثم هي لا ترى من الأدب مع العبادة أنها أهل للجزاء شعورًا منها بالنقص، ومخافة أن تكون عبادتها معلولة أو مدخولة، فهي إنما تقوم بالواجب كما تطيق، والله يفعل ما يشاء، عبدٌ ومسئوليته، وربٌّ ومراده عدلاً وفضلاً، لا وجوبَ قط عليه.
إذا كان ذلك فأي مأخذ يؤخذ على رابعة ؟ اللهم إلا إذا كان الإدراك العالي والملحظ الدقيق، وتجريد العبودية، وإخلاص العبادة، والتنزه عن المعابثة في مقامات العزة، واطِّراح الوثنية العقلية، والتسامي على القشرية والسطحية، إلا إذا كان كل ذلك عيبًا في دين الله، وما هو بذاك، فإنما هو مستوى الأصفياء والخاصة بحمد الله .
يا إخواننا: نظرة إنصاف، إنصاف لأنفسكم من أنفسكم، أما إنصاف التصوف منكم فعلى الله وحده، أفرأيتم لو أن رابعة الصوفية كانت راقصة أو ممثلة أو مغنية من عصركم هذا، بالله أفكان أحدكم يستطيع أن يسود كل هذه الصفحات في نقد ما تأتيه هذه الراقصة من آثام وخبائث يتقذرها إبليس، ويعجز العد عن حصرها ؟
يا ناس: استأسدوا على الفواجر الدواعر، ممن تسمعون وتبصرون من حولكم، ودعوا امرأة أفضت إلى ربها، وكل ذنبها عندكم أنها كانت عابدة، أتحداكم أن تواجهوا واحدة من منحلات هذا العصر ببعض ما تواجهون به عابدة العصر الغابر، وأعود فأتحداكم يا سباع المقابر.
عن روض الرياحين
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات