رد: 1.إشارات قرآنية ، من خلال فصوص الحكم لإبن عربي : ( الفص الآد
ج.إشارات في المرآة و الصور :
ولعل القارئ لهذه الكلمات المباركة لفحول الأولياء يتسائل : كيف استطاع هؤلاء القوم أن يجعلوا من حديث نبوي مشرق ضعفه أهل الحديث ، منبعا و أصلا لفهومهم؟.وكيف يصحح الكشف و العلم اللدني و البث الروحي للأولياء حديثا نبويا يراه أهل الحديث ضعيفا لعلة من العلل؟.وهل الكشف برهان ، و الكشف عرفان ، وآداة للترجيح و التعديل ، وحكم في صحة الحديث و بطلانه؟." إن الله خلق آدم على صورته ...." تضع الباحثين في مأزق غريب.ألله صورة ؟ و هل آدم و أبنائه نسخة و المظهر الكامل لهذه الصورة ؟.و هل التضاد و التنافر و المقابلة و التضاد سمة من سمات لهته الصورة ؟. وهل الأسماء الإلهية تعطل بعضها بعضا عند انتقال الإنسان من الضلال ( تجلي اسم الله المضل ) الى الهدى ( تجلي اسم الله الهادي ) عطل الهادي المضل ؟.القارئ لكتاب المواقف الروحية للشيخ عبد القادر الجزائري يجد نفسه ، بل تعتريه اشواق لمعرفة الأمر و في نفس الوقت تنتابه الحيرة و الدهشة لهذا الفهم لفحل من فحول الأولياء جاهد و نازل نفسه فأتعب العجم و العرب على السواء. وفي ثنايا الكتاب تجده يدل دلالة خاصة و عن يقين تام ، أنه يتلقى علمه من ابن عربي رضي الله عنه ، وكم من مرة يصرح في كتابه ، قال لي الشيخ الأكبر في الواقعة ، كذا و كذا ؟منذ شهرين ، و في بحث مضني لهذه الإشارات ، أصبحت لي قناعة بل برهان على أن الوجود الآدمي ليس بالأمر الهين ، وبقدر ما تجعله الأفكار و التصورات هملا بل عدما و عبثا ، بل حتى نحن من ننتسب إلى الدعوة المحمدية و الطريقة المحمدية ، يستوجب علينا إعادة النظر في أمور كثيرة ، من الصفر إلى ما لا نهاية ، و ليس في متناول الجميع ، أن تكون هذه الإشارات منبعا للفهم و الإستقصاء و البحث و العلم؟.ولعل تلقيه القرآن كما صرح به في أكثر مرة غيبا و تنزيلا و منجما كما يقول ، جعلت من الإمام الأغر يقف مع آية آية ، و قد استعطف مولاه في ثنايا الكتاب أن يتلقاه كله.ينفي عن ابن عربي قدس الله سره كل إشارة اتحادية و حلولية ، حتى وحدة الوجود و إن كا ن يستحليه البعض ، فإنه لا يتقبل إلا أن يقف مع الوحي متأدبا و يتحدث عن التكريم الإلهي .الإشارات التي دونتها حول الصورة و المرآة كثيرة ، وساكتبها تباعا من موقف إلى موقف ليقف القارئ على هذه المعاني ، ثم يتحاكم أو يحاكم مالديه من فهوم و علم و يقين في مغزى وجوده الآدمي.قرأت الجزئين في شهرين ، و أعدت بالقراءة بعض المواقف مرة ومرات.و عليه فهذا فهمي العليل ، فمن وجده سقيما فليعلم أنه من نفسي الأمارة بالسوء ، و إن وجد فيه غير ذلك فليحمد الله و ليدعو معنا بخير.
-الإشارة الأولى ، ص 88 89 /ج2: ( ......تأمل في المرآة تقبل كل صورة ترد عليها ، كيف تحكم في الصور و تقلبها إلى ما هي المرآة عليه من الصفة و الإستعداد ، فلا تظهر الصور فيها إلا بحسبها ، من طول و عرض و صغير و كبير .....وغير ذلك من الصفات ، و الماء ينزل من السماء عذبا فراتا ، فتقلبه أرض مرا ، و أرض زعاقا ، و أرض مالحا ، و أرض حارا ، و أرض سمجا ، و أرض كبريتا ، و أرض حديديا .....إلى غير ذلك من الصفات ، والماء واحد في حقيقته و أصله ، و تقلبه أرض فيبقى عذبا فراتا على أصله ، و الماء ما تغيرت حقيقته و لا تبدلت ، وإن تغيرت أوصافه بحسب القوابل ، و كـأنواع الثمار و الأزهار التي لا تنحصر ، و إنما ذلك كله ماء منعقد ، وهو حقيقة واحدة.و صور الأشجار و الأزهار تنوعه بحسب قابلياتها و أمزجتها بإرادة الحكيم تعالى ؛ فلا كاشف له إلا هو ، فلا يرفع أحد غيره تعالى ما مسك به من ضر ، من حيث قابليتك و مزاجك ، وربما كان ذلك خيرا لمن لم يكن مزاجه و قابليته مثلك ، ألا ترى الشمس حقيقة واحدة يتنعم بها المبرود و يتضرر بها المحرور ، فعين ما تنعم به هذا ، و تضر به الآخر . وكشفه تعالى لذلك ، لا يكون إلا من وراء حجب صور مخلوقاته المسماة أسباب ، من حيث وجوهها الإلهية الخاصة.
فإن لكل صورة في العالم العلوي و السفلي وجها خاصا من الحق تعالى ، و الصور لا أثر لها في العقل جملة واحدة ، من حيث انها صورة قائمة بنفسها ، كما هي في نظر المحجوبين و اعتقادهم ، فالآثار تظهر عند الأسباب العادية شهودا ، و بالوجوه الإلهية كشفا ، ولهذا يقول المحقق في الأسباب العادية : "عندها ، وبها " عندها من حيث الصورة ، فإن الوجوه الإلهية لا تقوم بأنفسها ، فلا بد لها من صورة تظهر بها .و بها من حيث الوجوه الإلهية التي قامت بها الصور ، لا يقول " عندها" فقط كما يقول من ليس له هذا الكشف : لا يقال لو كان الأمر كذا ؛ لما تخلف المسبب عن السبب عادة ، لأنا نقول : الصور السببية عادة ، قد يكون الإسم الإلهي الخاص بتلك الصورة ، وهو الذي كانت تظهر عنه تلك الخاصية مغلوبا لإسم آخر إلهي ، في ذلك الوقت ، فلا تظر الخاصية التي تظهر تلك الصورة ، إلى أن تكون تلك الغلبة ، فتظر تلك الخاصية و الأثر كما كان.فإن للأسماء الإلهية دولا و أياما على بعضها بعضا. و الغلبة و الحكم لصاحب الوقت .
فلهذا قد لا يظهر الثر و الخاصية مع وجود السبب عادة ، ثم تظهر الخاصية و الأثر في زمان آخر ، فكما أنه تعالى ما مسك بالضر غلا بواسطة سبب مشهودة أو غير مشهودة ، حسية أو معنوية ، لابد من ذلك ، لا استعانة بمخلوقاته ، ولكن حكمة أمضاها في العالم و أخفاها عن أكثر عباده ، أضل بها من يشاء و هدى بها من شاء : ( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء و تهدي من تشاء ) الأعراف آ 155.) المواقف الروحية ، والفيوضات السبوحية ، للإمام عبد القادر الجزائري.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في تكريم و بلاء الإنسان :
( .....سؤال مركزي، سؤال حيوي، سؤال مكبوت، سؤال غريب !
سؤال لا يطرح في عصر فقد معناه و انشغل بمشاكل أخرى متعلقة بالكيف لا بالغاية؛ عصر تقني عالمي يحركه الفضول، عصر منفتح على الكون الفلكي وعلى الكون الجزئي؛ عصر منقب، مدقق، مراقب لأدق التفاصيل ولأصغر الظواهر؛ عصر مستنكر لهذا السؤال !
فمعنى الحياة، والغاية من الحياة، قضية منبوذة لا تثار إلا في بعض الحلقات المغلقة التي يحضرها بضع فلاسفة مغرمين بالتأملات الميتافيزيقية أو عند مهمشي الحداثة المترهبين من المسلمين أو من غيرهم من الأمم الأخرى المتخلفة عن ركب العصر.
الفلسفة الوضعية المادية هي أسلوب التفكير الوحيد المتجدر في المجتمع الحديث، فلا وجود إلا لما تدركه الحواس، لا وجود إلا للمُحَس، المادي، المتجسد، وكل ما لا يستطيع العلم إثباته و قياسه يظل مجرد تخرصات، خاصة إذا كانت القضية تعالج مصير الإنسان، وتبحث عن مغزىً لوجود الإنسان.
حقل البحث العلمي منحصرٌ في الجدوى الوظيفية للأشياء وفعالية تنظيمها، بعيداً عن هذيان العالَم التائه في فلك الغيبيات. ويبدو الإنسان الحديث مستسلما لحياة تافهة فارغة من كل معنى، تعقبها نهاية مأساوية قادمة لامحالة.
رغم ذلك، يظل باب الأمل مفتوحا. فالعلم سيمكننا يوما ما من تمديد عمر الإنسان حتى يتجاوز معدله في الدول المتقدمة السنين الثمانين الحالية ليبلغ غدا قرنا أو -لم لا؟- قرناً ونصفاً. ما دامت الأبحاث الوراثية حققت نتائج مذهلة: عمر أطول، حياة أفضل، صحة أمتن، بفضل التطور المادي. أما القضية الجوهرية فيحرص الإنسان على تجنبها، مخادعا نفسه، متسليا لعله ينسى أو ليتجنب مواجهة السؤال البديهي: ما جدوى العيش إذا كانت الحياة مجرد صدفة عبثية سيعقبها الموت والحفرة العفنة؟ أفضل من ذلك التعجيل بالانتحار !
سؤال يفعل فعله في أحشاء الكائن البشري سواء استطاع التعبير عنه أم لم يستطع. ففي مجتمعات ما بعد الحداثة، تقمع الرفاهية هذا السؤال أو يدفنه البؤس، لكنه سرعان ما ينبعث، حادا، ملحا، مطالبا بالجواب.
في أعماق كل ضمير، في ركن منه، يكمن الانتظار، انتظار نداءٍ مخلِّص، صوتٍ منقذ ينبئنا أن لوجودنا غاية غير الخمول الذي يتمرغ فيه حضورنا على وجه الأرض.
مهما نشطت الثقافة الحديثة واجتاحنا ضجيجها الكاسح فلن تقتنـع الطبيعــة -تلك الفطرة الكامنة في أعماق كل واحد منا- بأن وجودنا عبث في عبث. ففي أعماق الضمير الإنساني توتر يشده إلى الأعلى، إلى الروح، قد يعتريه الفتور لكنه أبدا لا يتلاشى، قد يُحاصر منذ الصغر فينمو صاحبه أصم عن سماع النداء الباطني أو أعمى لا يرى ضوء النهار، غلَّقت سمعَه و بصره تربيةٌ خاصة وثقافة معينة، لكنه يظل قابعا في زاوية من زوايا الضمير، ينتظر موعده، ينتظر أن يتمكن العلم يوما ما من بعث الموتى.
في انتظار ذلك اليوم، سيحجز الإنسان الحديث المخدوع مكانا له في الثلاجات المخصصة لحفظ أجداث أصحاب الملايين.
قد يهدي العلم للبشرية يوما إكسير الشباب الخالد والصحة الدائمة الذين كان يسعى إليهما الكيميائيون القدامى، لكن هل يتمكن من الإجابة عن هذا السؤال الذي يسكن الإنسان؟ هل تجيب عن السؤال الجوهري الحداثة التي انفصلت تدريجيا عن قيمها اليهودية المسيحية وتعلقت بأصولها الإغريقية الرومانية؟ أصبح الموقف الحديث المتميز بالحذر واللامبالاة بل العداء لكل قضية غير عقلانية ينبذ كل مفهوم غيبي، و أضحى المخبولون المنكبون على دراسة الظواهر النفسية الخارقة أو أيَّة صرعة أخرى مشابهة موضوع ريبة في المجتمع الحديث.
لكن الفطرة حين تطرد من الباب لابد أن تعود من النافدة. فالروحانية الطبيعية التي تستميت الحداثة في مطاردتها تعود من نافدة تطل على الهاوية. فقد أصبحت الشعوذة صناعة مزدهرة في دروب المجتمعات الحديثة المحاربة للفطرة البشرية.
هكذا، حل التفكير الذي تروجه الروحانية الطائفية محل كل روحانية، فأصبحت تتجاور في هوامش المجتمعات الحديثة فرق يلتهم أعضاؤها اللحم البشري النيئ، وأخرى يتعبد أعضاؤها بالانتحار الجماعي، إضافة إلى ممارسات شاذة أخرى مثل السحر وصرعة استحضار الأرواح التي لاتزال تدير الموائد وتحادث الموتى الأعزاء. زعماً وشيطنة.
في الواجهة المشرقة، تسطع شمس الثقافة الهلينية الرومانية، المرجع الوحيد لحضارة تتنكـر لجـذورها الروحية فيصبح المظهــر الجســدي المتمثــل في الجمال التشكيلي لجسم الرياضي، وملكة الجمال، وإنجاز البطل الأولمبي أسمى القيم في هذا الزمـن. بذا أصبح أجر نجم كـرة القـدم أو مغنيـة الأوبرا يعــادل أجـر نجم السينمـا الذي يتجـاوز أجـر وزير أول، لكنــه رغم ذلك لا يبلغ المبلغ الذي يجنيه بطـل الملاكمة من دقائق معـدودات يقضيهـا فوق الحلبة.
لكننا حين نطَّلع على الواجهة المظلمة، يصدِمُنا مشهد السؤال الفطري عن مغزى الحياة -السؤال المخنوق المكبوت- وهو يبحث عن جواب له في المكاتب المتخصصة وبين أحضان الطوائف السرية التي وهبت نفسها للشيطان.) ، فقرة : لما الحياة ؟ ، من كتاب الإسلام و الحداثة.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين في تكريم و بلاء الإنسان :
( .....سؤال مركزي، سؤال حيوي، سؤال مكبوت، سؤال غريب !
سؤال لا يطرح في عصر فقد معناه و انشغل بمشاكل أخرى متعلقة بالكيف لا بالغاية؛ عصر تقني عالمي يحركه الفضول، عصر منفتح على الكون الفلكي وعلى الكون الجزئي؛ عصر منقب، مدقق، مراقب لأدق التفاصيل ولأصغر الظواهر؛ عصر مستنكر لهذا السؤال !
فمعنى الحياة، والغاية من الحياة، قضية منبوذة لا تثار إلا في بعض الحلقات المغلقة التي يحضرها بضع فلاسفة مغرمين بالتأملات الميتافيزيقية أو عند مهمشي الحداثة المترهبين من المسلمين أو من غيرهم من الأمم الأخرى المتخلفة عن ركب العصر.
الفلسفة الوضعية المادية هي أسلوب التفكير الوحيد المتجدر في المجتمع الحديث، فلا وجود إلا لما تدركه الحواس، لا وجود إلا للمُحَس، المادي، المتجسد، وكل ما لا يستطيع العلم إثباته و قياسه يظل مجرد تخرصات، خاصة إذا كانت القضية تعالج مصير الإنسان، وتبحث عن مغزىً لوجود الإنسان.
حقل البحث العلمي منحصرٌ في الجدوى الوظيفية للأشياء وفعالية تنظيمها، بعيداً عن هذيان العالَم التائه في فلك الغيبيات. ويبدو الإنسان الحديث مستسلما لحياة تافهة فارغة من كل معنى، تعقبها نهاية مأساوية قادمة لامحالة.
رغم ذلك، يظل باب الأمل مفتوحا. فالعلم سيمكننا يوما ما من تمديد عمر الإنسان حتى يتجاوز معدله في الدول المتقدمة السنين الثمانين الحالية ليبلغ غدا قرنا أو -لم لا؟- قرناً ونصفاً. ما دامت الأبحاث الوراثية حققت نتائج مذهلة: عمر أطول، حياة أفضل، صحة أمتن، بفضل التطور المادي. أما القضية الجوهرية فيحرص الإنسان على تجنبها، مخادعا نفسه، متسليا لعله ينسى أو ليتجنب مواجهة السؤال البديهي: ما جدوى العيش إذا كانت الحياة مجرد صدفة عبثية سيعقبها الموت والحفرة العفنة؟ أفضل من ذلك التعجيل بالانتحار !
سؤال يفعل فعله في أحشاء الكائن البشري سواء استطاع التعبير عنه أم لم يستطع. ففي مجتمعات ما بعد الحداثة، تقمع الرفاهية هذا السؤال أو يدفنه البؤس، لكنه سرعان ما ينبعث، حادا، ملحا، مطالبا بالجواب.
في أعماق كل ضمير، في ركن منه، يكمن الانتظار، انتظار نداءٍ مخلِّص، صوتٍ منقذ ينبئنا أن لوجودنا غاية غير الخمول الذي يتمرغ فيه حضورنا على وجه الأرض.
مهما نشطت الثقافة الحديثة واجتاحنا ضجيجها الكاسح فلن تقتنـع الطبيعــة -تلك الفطرة الكامنة في أعماق كل واحد منا- بأن وجودنا عبث في عبث. ففي أعماق الضمير الإنساني توتر يشده إلى الأعلى، إلى الروح، قد يعتريه الفتور لكنه أبدا لا يتلاشى، قد يُحاصر منذ الصغر فينمو صاحبه أصم عن سماع النداء الباطني أو أعمى لا يرى ضوء النهار، غلَّقت سمعَه و بصره تربيةٌ خاصة وثقافة معينة، لكنه يظل قابعا في زاوية من زوايا الضمير، ينتظر موعده، ينتظر أن يتمكن العلم يوما ما من بعث الموتى.
في انتظار ذلك اليوم، سيحجز الإنسان الحديث المخدوع مكانا له في الثلاجات المخصصة لحفظ أجداث أصحاب الملايين.
قد يهدي العلم للبشرية يوما إكسير الشباب الخالد والصحة الدائمة الذين كان يسعى إليهما الكيميائيون القدامى، لكن هل يتمكن من الإجابة عن هذا السؤال الذي يسكن الإنسان؟ هل تجيب عن السؤال الجوهري الحداثة التي انفصلت تدريجيا عن قيمها اليهودية المسيحية وتعلقت بأصولها الإغريقية الرومانية؟ أصبح الموقف الحديث المتميز بالحذر واللامبالاة بل العداء لكل قضية غير عقلانية ينبذ كل مفهوم غيبي، و أضحى المخبولون المنكبون على دراسة الظواهر النفسية الخارقة أو أيَّة صرعة أخرى مشابهة موضوع ريبة في المجتمع الحديث.
لكن الفطرة حين تطرد من الباب لابد أن تعود من النافدة. فالروحانية الطبيعية التي تستميت الحداثة في مطاردتها تعود من نافدة تطل على الهاوية. فقد أصبحت الشعوذة صناعة مزدهرة في دروب المجتمعات الحديثة المحاربة للفطرة البشرية.
هكذا، حل التفكير الذي تروجه الروحانية الطائفية محل كل روحانية، فأصبحت تتجاور في هوامش المجتمعات الحديثة فرق يلتهم أعضاؤها اللحم البشري النيئ، وأخرى يتعبد أعضاؤها بالانتحار الجماعي، إضافة إلى ممارسات شاذة أخرى مثل السحر وصرعة استحضار الأرواح التي لاتزال تدير الموائد وتحادث الموتى الأعزاء. زعماً وشيطنة.
في الواجهة المشرقة، تسطع شمس الثقافة الهلينية الرومانية، المرجع الوحيد لحضارة تتنكـر لجـذورها الروحية فيصبح المظهــر الجســدي المتمثــل في الجمال التشكيلي لجسم الرياضي، وملكة الجمال، وإنجاز البطل الأولمبي أسمى القيم في هذا الزمـن. بذا أصبح أجر نجم كـرة القـدم أو مغنيـة الأوبرا يعــادل أجـر نجم السينمـا الذي يتجـاوز أجـر وزير أول، لكنــه رغم ذلك لا يبلغ المبلغ الذي يجنيه بطـل الملاكمة من دقائق معـدودات يقضيهـا فوق الحلبة.
لكننا حين نطَّلع على الواجهة المظلمة، يصدِمُنا مشهد السؤال الفطري عن مغزى الحياة -السؤال المخنوق المكبوت- وهو يبحث عن جواب له في المكاتب المتخصصة وبين أحضان الطوائف السرية التي وهبت نفسها للشيطان.) ، فقرة : لما الحياة ؟ ، من كتاب الإسلام و الحداثة.
سَـمِّــي الـفرَضية الدروينية "مسلمـة دوابيــة" انطــلاقـا من التعـبير القـرآني الوارد مرتين في سورة واحدة: "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون"[1] و" إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون"[2].
وفي آيات أخر، يذكر القرآن عشر مرات الصم البكم العمي الذين يغلقون المنافذ إلى قلوبهم حتى لا يبلغهم صوت التساؤل الداخلي الذي يعرضه الوحي على لسان أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
ففي سنة 1830، نشر تشارلز داروين كتابه،"أصل الأنواع" عارضا فرضياته القائلة بأن الإنسان ليس سوى حيوان متطور لم يخلقه أي إله من عدم.
وسَرَّعت هذه الفرضية "العلمية" خطواتها مغتنمة فرصة التقدم العلمي في القرن التاسع عشر المذهل. منذ ذلك الحين - أي منذ أكثر من160 سنة- وصوت الدروينية يعلو ويعلن أن الإنسان خلق ذاته وأنه نتج عن فعله أي أنه غير مُمْتَنٍّ بوجوده لأحد.
هذه الفرضية، مهما بلغت عبثيتها، تأتي في سياق الانتقام من الكنيسة ومن إله الكنيسة. ففي سنة 1517، أي حوالي ثلاثة قرون قبل صدور كتاب داروين، نشر مارتان لوثر -الراهب الألماني المخلص الذي غاظه فساد رجال الكنيسة- أطروحاته الخمسة والتسعين ضد الكنيسة الكاثوليكية، فكانت الثورة التي انتشرت في صفوف المسيحيين على "صكوك الغفران" الممنوحة للمؤمن النصراني المذنب مقابل "ندامة" من الذهب الرنَّان تسقـط في خزانة الكنيسة.
ثم طالب لوثر بأمور أخرى أهمها إلغاء "صكوك الغفران" ذاتها لتنتهي معركة الراهب الورع بالانفصال عن البابوية وميلاد الكنيسة البروتستانتية.
بعد ثلاثة قرون -أي أربعين سنة بعد الثورة الفرنسية التي انتقمت بأسلوب دموي من الملكية والكنيسة- تضاعف بغض النخبة الأوربية المثقفة للكنيسة، وتجلى ذلك في عدة ظواهر أهمها الظاهرة الداروينية: عودة إلى الداروينية تصحبُها عودة إلى الوثنية الإغريقية الرومانية، ورفض أطروحة الإله البشر التـي تدعو إليها الكنيسة، وتعويضها بالمجمع المأهول بالآلهة وأنصاف الآلهة والأبطال الذين تمتزج في عروقهم دماء الآلهة والبشر.
هكذا ثار الإنسان على الإله كما فعل البطل الخرافي اليوناني برومثيوس من قبل حين سرق النار المقدسة من آلهة جبل أولمب، ليصبح رمزا لتحرير الإنسان من وصاية الآلهة. أصبح الإنسان إله نفسه، خالق نفسه. وتلك هي الكرامة التي أرادها داروين للإنسان. لم لا والكنيسة تعبد بشراً والجذور التاريخية لأوربا وحضارتها زاخرة بالآلهة المتنوعة؟ لم لا والإنسان والإله وجهان لعملة واحدة في عقيدة أوربا النصرانية؟
لم لا وداروين يعتبر الطبيعة مُطلَقاً يعوض الإله الخالق الذي لم يكتشفه العلم في أي مكان ليصبح الإنسان صانع ذاته؟ و تزْعُم المسلمة التي تجعل الصدفة خالقة للأشياء أنها حقيقة"علمية" أفرزتها الملاحظات التي جناها الرائد الإنجليزي من رحلاته -خاصة تلك التي قام بها إلى جزر الغالاباغوس- المتحف الحي الزاخر بالحيوانات الفريدة.
وكانت الخلاصة النهائية الغبية أن الإنسان قرد عار؛ مسلمة دوابية هَشة عمل أتباع داروين من بعده على إرسائها على وقائع علمية من خلال أبحاثهم المتواصلة.
و كانت حجج الداروينيين الجدد أن الحيوانات التي تستطيع البقاء على قيد الحياة هي تلك التي تحسن التكيف مع الوسط الطبيعي و التي تقدر أكثر من غيرها على اجتياز العراقيل والفوز في صراع الأدغال. هكذا استطاع جد الإنسان، القرد الذكي الحاذق، أن يوسع جمجمته، وينمي حجم دماغه قبل أن ينزل من الشجر ليمشي فرحا على قائمتيه الخلفيتين و يصبح سيد المملكة الحيوانية التي ينتسب إليها.
استطاع هذا الكائن الداب على قدمين، القادم من بعيد، المتجه نحو مستقبل كوني أن يحكم الأرض. هذا الكائن المنحدر من جد قديم، من سمكة عجيبة غادرت البحر، طوَّر حضارة الطاقة النووية وغزو الفضاء والإنسان الآلي، وعلم الوراثة والاستنساخ الذي سيطبق غدا على الإنسان لتتم الحلقة بصنع الإنسان نفسه مباشرة وبسرعة دون الحاجة إلى انتظار ملايين السنين. لأنه قادر حين يريد!
لكن علماء الإحاثة لم يترددوا في تفحص المسلمة البليدة مطالبين الداروينيين الجدد بعرض"الحلقة الناقصة" التي ما زالت مفقودة. ألم يعترف داروين نفسه بأن عدد الوسطاء المزعومين بين الحيوان و الإنسان "غير قابل للتقدير"؟ ألم يتحقق الجيولوجيون بعد استنطاق أحفورياتهم واكتشافهم عشرات الأنواع المجهولة التي لا يمكن تصنيفها حسب لائحة الأنواع المتداولة أيام داروين أن فرضيته لا تستحق إلا السخرية. أما "القائلون بالخلق" من النصارى المعاصرين فيناضلون في أمريكا لتخليص النظام التربوي من قبضة الداروينيين. لكن الأساطير التوراتية التي يبنون عليها استدلالهم ليست أكثر معقولية من الأسطورة الداروينية. وذلك يوقع المؤمن بها في حرج شديد حين يواجهه الدارويني بالحجج العلمية التي تبرهن اعتمادا على أساليب تجاوزت بدقتها الكاربون 14 أن العالم وجـد منذ مـلايير السنـين بدلا من بضعـة الآلاف التي توردهـا التـوراة. و يبقى سحر المسلمة الدوابية مهيمنا على أوربا حيث يسود اليقين بأن القرد أبونا و السمك جدنا.
فلقد شهد القرن التاسع عشر الأوربي ازدهار مذهب الارتقاء في جميع الميادين خاصة بعد أن حملت لواءهُ ثلاثة أسماء لامعة: أغست كونت الفرنسي وتشارلز داروين الإنجليزي و كارل ماكس الألماني.
أما الطبيعية الداروينية فقد عرضنا أهم معالمها.
وأما الوضعية الكونطية فترى الأفكار تطورت عبر ثلاث مراحل؛ أولها المرحلة الأسطورية، ثم المرحلة الميتافيزيقية، ثم المرحلة الوضعية. ما هو أساس وضعية هذه المادية الفرنسية؟ وقائع فقط ! الوقائع المُحَسة الخاضعة للتجربة العلمية.المُحس فقط. فقط.
بقي ثالث الفرسان: كارل ماركس، الإيديولوجي، الفيلسوف، الاقتصادي، الاجتماعي، المؤرخ، السياسي. الرجل الذي نَظَّر لتاريخ المجتمعات البشرية واعتبره صيرورة مستمرة من الصراعات بين الطبقات. هذه الماركسية إن هي إلاَّ داروينية اجتماعية اقتصادية لقيت مصيرها المعروف، وكذبت الممَارسةُ السياسية الاقتصادية النظريةَ لتصبح التجربة درسا حيا ينبغي تأمله. الغريب في الأمر أن داروين لم يكن مقتنعا بالأطروحات الماركسية إذ رفض إجابة ماركس إلى طلبه كتابة مقدمة لمُؤلَّفه "رأس المال" رغم استلهامه الظاهر من نظرية الألماني.
تبقى الخلاصةُ أن التضامن الذي نلاحظه أحيانا بين وحوش الأدغال الطبيعية ينعدم بين إيديولوجيي أدغال النظريات الدوابية... فكل واحد مهتم بنفسه فقط، والكل منكر لله عز وجل.