أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ
قولُه ـ تعالى شأنُه العظيم: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أَوْ أَمْنَ أَهْلُ القُرَى الكَافِرَةِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ اللهِ، وَقْتَ الضُّحَى، وَهُمْ مُطْمَئِنُونَ فِي أَشْغَالِهِمْ وَمَلاَعِبِهِمْ "يَلْعَبُونَ"، لاَ يَتَوَقَّعُونَ حُلُولَ العَذَابِ بِهِمْ؟ وهو إنكارٌ بعدَ إنكارٍ مُبالغةً في التوبيخِ والتَشديدِ، ولم يُقصَدُ هنا الترتيبُ بينَهما فلذا لم يؤتَ بالفاءِ التي تفيد الترتيب. فبعد أن خوَّفهم الله تعالى بنزول العذاب عليهم في وقت غَفْلَتِهِم، وهو حال نَومهم باللَّيْل، خوَّفهم بنزوله حال الضُّحَى بالنَّهَارِ؛ لأنَّهُ وقتَ اشتغالِ المرءِ باللَّذَّاتِ، وفي هذين الوقتين يكون الإنسانُ أغفلَ ما يكون. وقوله: "وَهُمْ يَلْعَبُونَ" يحتملُ التَّشَاغُلَ بأمورِ الدُّنيا فهي لَعِبٌ ولهو، ويحتملُ التشاغلُ في كُفْرِهِم؛ لأنَّهُ كاللَّعِبِ في أنَّهُ يضرُّ ولا يَنْفَعُ. يقال: ضُحى وضَحاء، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ وإذا فتحت مَدَدْتَ. وقال بعضهم: الضُّحى بالضم والقصرِ لأولِ ارتفاع الشمس، والضَّحاء بالفتح والمدّ لقوَّةِ ارتفاعها قبل الزوال. والضُّحى مؤنث، وشذُّوا في تصغيره على ضُحَيٌّ بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها، والضَّحاء أيضاً طعامُ الضحى كالغَداء طعام وقت الغُدْوَة يقال منهما: يُضَحِّي ضَحاءً وتَغَدَّى غَداءً. وضَحِيَ يَضْحَى إذا برز للشمسِ وقت الضحى، ثم عُبِّر به عن إصابة الشمس مطلقاً ومنه قولُه في سورة طه: {وَلاَ تضحى} الآية: 119. أي لا تَبرُزُ للشمس. ويقال: ليلةٌ أُضْحِيانَةٌ بضَمِّ الهمزة. وضَحْياء بالمَدِّ أي: مُضيئةٌ إضاءةَ الضُحى، ومنه الأُضْحِيَة وجمعُها أَضاحٍ، والضَّحيَّة وجمعُها ضَحايا، والأَضْحاةُ وجمعُها أَضْحَىً وهي المذبوحُ يوم النحر، سُمِّيَتْ بذلك لذَبْحها ذلك الوقتَ لقولِهِ ـ عليه الصلاةُ والسلام فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن جندب بن سفيان رضي الله عنهما: ((مَنْ ذبَحَ قبلَ صَلاتِنا هذه فَلْيُعِدْ)). وضواحي البلدِ نواحيهِ البارِزةُ.
قوله تعالى: {ضُحَىً}: ظَرْفُ زمانٍ منصوبٌ، ويكون متصرفاً وغير متصرِّفٍ، فالمتصرِّفُ ما لم يُرَدْ به وقتُه من يومٍ بعينِه نحو: "ضُحاك ضحىً مبارك". فإن قلتَ: "أتيتك يوم كذا ضحىً" فهذا لا يَتَصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية.
وقوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} هذه الجملة الاسمية في محلِّ نصبٍ على الحال، وهذا يقوِّي أن "بياتاً" ظرفٌ لا حال، لتتطابق الجملتان، فيصير في كلِّ منهُما وقتٌ وحال، وأَتى بالحال الأولى متضمنةً لاسم فاعلٍ لأنَّه يدلُّ على ثبات واستقرارٍ وهو مناسب للنوم، وبالثانية متضمنةً لفعل؛ لأنَّه يَدلُّ على التجدُّدِ والحُدوثِ وهو مُناسبٌ لِلهزل واللَّعبِ.
قرأَ الجمهورُ: "أوَ" بفتحِ الواو، وقرأ نافع وابنُ عامر وابنُ كثيرٍ: "أوْ" بسكون الواوِ. فتكون "أو" في هذه القراءة الثانية حرفَ عطف ومعناها حينئذٍ التَقْسيم. وزعمَ بعضُهم أنها للإِباحة والتخييرِ. وليس بظاهر، وهي في القراءةِ الأولى واوُ العطفِ دخلَتْ عليها همزةُ الاستفهام مقدمةً عليها لفظاً، وإن كانت بعدها تقديراً عند الجمهور. ومعنى الاستفهام هنا التوبيخ والتقريع، كما تقدَّم. وقال أبو شامة وغيرُه: إنَّهُ بمعنى النفي.
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ
قولُه ـ تعالى شأنُه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ} استفهامٌ إنكاري فيه معنى التوبيخ لأهل القرى الكافرة الذين يطمئنون إلى ما هم فيه من نعمةِ اللهِ، ويستمرون في كُفرِهم وضلالهم، ويستمرئون عيشَ الدَعَة ولا يفطنون إلى أنَّ هذه البحبوحةَ من العيشِ التي يَنْعَمون بها ربما كانت استدراجاً منه ـ سبحانه وتعالى ـ لهم وابتلاءً منه وكيداً. ولا يخشون بَأْسَهْ وَنَقْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ عَلَى أَخْذِهِمْ، وَتَدْمِيرِهِمْ فِي حَالِ مَنْ سَهْوِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ. ومكرُ الله استدراجُه، وما يُعِدُّ من عقوبة للغافلين عن الإيمان به وبرسوله والمتولين عن شكر نعمائه. والمكرُ في الأَصلِ الخداعُ، ويُطلَقُ على السَتْرِ، يُقال: مَكَرَ الليلُ: أيْ سَتَرَ بِظُلْمَتِهِ ما فيه، وقد تقدَّم في آل عمران في قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} الآية: 54. أنَّه من باب المُقَابلَةِ أيضاً.
قوله: {فلا يَأْمَنُ مَكَرَ اللهِ إلاَّ القَوْمُ الخاسرونَ} الذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لِعَدَمِ إِدْرَاكِهِمْ مَا فِيهِ صَلاَحُهُمْ وَخَيْرُهُمْ. و"الخاسرون" أي الذين خسِروا أَنفُسَهم فأضاعوا فِطرةَ الله التي فَطَرَ الناسَ عليها، والاستعدادَ القريبَ المُستفادَ مِنَ النَظَرِ في الآياتِ.
واستدلَّتِ الحَنَفيَّةُ بالآية على أنَّ الأمْنَ مِنْ مَكْرِ الله ـ تعالى ـ وهو كما في جميع الجوامع الاسْتِرْسالُ في المعاصي اتِّكالاً على عَفوِ اللهِ ـ تعالى كفر ـ ومثلُهُ اليأسُ مِنْ رَحمتِه ـ سبحانه ـ لقولِه في سورة يوسف: {إنَّهُ لاَ يَيْأس مِنْ رُوحِ اللهِ إلاَّ القَوْم الكَافِرُون} الآية: 87. وذهبتِ الشافِعِيَّةُ إلى أَنهما مِنَ الكبائِرِ لِتَصْريحِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنه ـ بذلك، وروى ابْنُ أَبي حاتمٍ، والبزَّارُ عن ابْنِ عباسٍ ـ رضي اللهُ تعالى عنهما ـ أنَّه ـ صلى اللهُ تعالى عليه وسلم ـ سُئلَ ما الكَبائرُ؟ فقال: ((الشِرْكُ باللهِ تَعالى، واليأسُ من رَوْحِ اللهِ، والأمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ)). وهذا أكبر الكبائر.
قالوا: وما وَرَدَ مِنْ أنَّ ذلك كُفْرٌ محمولٌ على التَغليظِ، وآيةُ "لا يَيْأَسُ.. الخ" كقولِهِ تعالى في سورة النور: {الزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ}، الآية: 3. وكقولِه في سورة المُجادلة: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله} الآية: 22. في قولٍ.
وقالَ بعضُ المحقِّقين: إنْ كانِ في الأمنِ اعتقادُ أنَّ الله تعالى لا يَقدِرُ على الانْتِقامِ مِنْهُ، وكذا إذا كان في اليأسِ اعْتِقادُ عَدَمِ القُدْرَةِ على الرَّحمةِ والإحسانِ، أو نحوِ ذلك فذلك مما لا رَيْبَ في أنَّه كُفرٌ، وإنْ خَلا عن نحوِ هذا الاعتقادِ، ولم يكن فيه تهاوُنٌ وعَدمُ مُبالاةٍ باللهِ تعالى فذلك كبيرةٌ.
وأضافَ المكرَ إلى ذاتِهِ العليَّةِ إضافةَ المخلوقِ إلى الخالقِ، وهو كقولهم: ناقةُ اللهِ وبيتُ اللهِ، والمُرادُ بِهِ فعلٌ يُعاقَبُ بِهِ الكَفَرَةُ، ولَمَّا كانَ المكرُ يعني العقوبةَ على الذَنْبِ أُضيفَ إلى الذات المقدَّسةِ، إذ من حقه وحده ـ سبحانه وتعالى ـ أن يُعاقِبَ على الكفر به، وهو الوحيدُ القادرُ عليه. فإنَّ العربَ تسمِّي العقوبةَ على أيِّ جِهةٍ كانتْ باسْمِ الذَنْبِ الذي وقعتْ عليهِ العُقوبَةُ.
قولُهُ تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ} كرِّرَتِ الجُملةُ هنا بعد قولِهِ تعالى: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى}: بـ "أفأمِنُوا" لتوكيدها، وأُتي في هذه الجملة باسمهِ ـ تعالى ـ ظاهراً، وحَقُّه أنْ يُضْمَرَ للمبالغةِ في التوكيد. وقد وجيء بالفاءِ في قولهِ: "فَلاَ يأمَنُ" للتَّنْبِيهِ على أنَّ العذابَ يَعْقُبُ أَمْنَ مَكْرَِ اللهِ. أو هي لتعليل ما يُفْهِمُهُ الكلامُ مِنْ ذَمِّ الأَمْنِ من مكرِ اللهِ واستقباحِهِ، أو هي فَصيحةٌ، ويُقَدَّرُ ما يُستفادُ مِنَ الكلامِ شَرطاً، أيْ إذا كانَ الأَمْنُ في غايةِ القُبْحِ فلا يَرْتَكِبُهُ إلاَّ مَنْ خَسِرَ نفسَه.