محنة الصوفية
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
وقصتهم إن فقهاء بغداد قالوا للمتوكل إن الجنيد قد تزندق هو وأصحابه فقال لهم الملك -وكان يميل إلى الجنيد-: يا أعداء الله ما أردتم إلا أن تفنوا أولياء الله من الأرض واحدا بعد واحد قتلتم الحلاج وأنتم ترون له كل يوم عبارة ولا تزدجرون, وهذا الجنيد لا سبيل لكم إليه حتى تغلبوه بالحجة , فاجمعوا له الفقهاء, واعملوا له مجلسا, فإن أنتم غلبتموه, وشهد الناس بأنكم غالبون عليه, قتلته, وإن هو غلبكم, والله لأمشين عليكم بالسيف حتى لا نبقي منكم أحدا على الأرض! قالوا نعم.
فجمعوا له الفقهاء من الشام واليمن والعراق والأمصار, فاجتمع الفقهاء في ذلك, حتى لم يبق في الجوانب الأربع من يعرف مسألة في دينه إلا حضر! فلما أجتمع الفقهاء في المجلس بعث الملك إليه, فأتى هو وأصحابه إلى باب القصر, فدخل الجنيد, وترك أصحابه, وأدى حق الخليفة (يعني من التعظيم) وقعد فقام إليه أحد الفقهاء يسأله في مسألة فسمعه القاضي علي بن أبي ثور, فقال لهم تسألون الجنيد؟ فقالوا نعم, فقال لهم أفيكم من هو أفقه منه؟ فقالوا لا, فقال يا عجبا هو أفقه منكم في علمكم. وقد تفقه في علم تنكرونه عليه! يعني ولا تعرفونه, فكيف تسألون رجلا لا ترون ما يقول؟ فبهت القوم وسكتوا زمانا.
ثم قالوا ما العمل يا قاضي المسلمين؟ فأشر بما شئت فنصنع, فأمرك مطاع ,قال فرد القاضي وجهه إلى الأمير وقال له: أترك الجنيد وأَََخرِج إلى أصحابه صاحبَ سيفك وهو الوليد بن ربيعة ينادي فيهم من يقوم إلى السيف؟ فأول من يقوم إليه نسأله فقال الملك: يرحمك الله لم ذلك تروع القوم! ولم تظهر لكم حجة, لا يحل لنا ذلك, فقال القاضي يا أمير المؤمنين إن الصوفية يحبون الإيثار على أنفسهم حتى بأنفسهم, فأذن من ينادي أيكم يقوم للسيف! فالرجل الذي يقوم مبادرا إلى السيف هو أكثر الناس جهلا وأكثرهم صدقا لله عز وجل! فيقوم يؤثر أصحابه بالعيش بعده فإذا قدم أجهلهم علينا جعل الفقهاء يناظرونه فيما يطلبونه منه, فان الفقهاء لا يغلبونه ولا يغلبهم! فيقع الصلح بيننا وبينهم, فإنها قد نزلت مصيبة عظيمة لا ندري لمن يقع النجاة منها, فإنه إن قتل الجنيد نزلت داهية في الإسلام, فإنه قطب الإيمان في عصرنا, وإن قتل العلماء والفقهاء فهي مصيبة عظيمة, فقال له الأمير:" لله درك لقد أصبت!" ثم عطف على الوليد وقال:" افعل ما يقول لك القاضي".
فخرج الوليد وهو مقلد سيفه فوقف على المريدين وهم مائتان وسبعون رجلا قعودا ناكسي رؤوسهم, وهم يذكرون الله فنادى فيهم:" أفيكم من يقوم إلى السيف؟" فقام إليه رجل يقال له أبو الحسن النوري فقال الوليد:" ما رأيت طائرا أسرع منه!" فوثب قائما بين يدي, فعجبت من سرعة قيامه!! فقلت يا هذا أعلمت لما قمت؟ فقال نعم ألم تقل أفيكم من يقوم للسيف؟ فقلت له نعم! فقال ولم قمت؟ قال علمت أن الدنيا سجن المؤمن, فأحببت أن أخرج إلى دار الفوز وأن أؤثر أصحابي عليَّ بالعيش ولو ساعة! ولعلي أقتل فيطفئ الشر بي فيسلم جميعهم ولا يقتل أحد غيري, قال الصاحب:" فعجبت من فصاحته!" فقلت:" أجب القاضي, فتغير لونه وسالت عبرته على خده, فقال:" أو دعاني القاضي ؟ قلت نعم دعاك, قال فحقا عليَّ إجابته.
فدخلت وهو معي, فأخبرت الملك والقاضي بقصته, فتعجبا منه, وسأله القاضي عن مسألة غميضة:" من ِأنت؟ لم خلقت؟ وما ِأراد الله بخلقك؟ وأين هو ربك منك؟, فقال له أبو الحسن النوري": ومن أنت الذي تسألني؟ فقال أنا قاضي القضاة!! فقال له:" إذا لا رب غيرك ولا معبود سواك!! أنت قاضي القضاة, وهذا يوم الفصل والقضاء! والناس قد حشروا ضحى! فأين النفخة في الصور؟ التي قال الله فيها (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله)أأنا ممن صعق؟ أم أنا ممن شاء الله الذي لم أشهد النفخ؟ فبهت القاضي زمانا! وقال:" يا هذا أجعلت مني إلها؟ قال معاذ الله ,بل أنت تألهت حيث تسميت بقاضي القاضي !!وليس قاضي القضاة إلا القاضي الذي يقضي ولا يقضى عليه, أضاقت عليك الأسماء أما كفاك قاضي المسلمين؟؟ أو أحد الفقهاء؟ أم أحد من عباد الله حتى تسميت بقاضي القضاة؟ إذ استكبرت أن تقول أنا على ابن أبي ثور!! فما زال يقرعه حتى بكي القاضي, وهمّ أن تزهق نفسه, وبكى الملك لبكائه, وبكى الجنيد, فقال لتلميذه اقصر من عتابك للقاضي, فقد قتلته, فخل سبيله.
فلما أفاق القاضي, قال:" يا أبا الحسن أجبني عن مسألتي وأنا أتوب إلى الله بين يديك", قال: اذكر مسألتك فأني نسيتها, فأعاد عليه مسألته, فنظر عن يمنينه وقال: اتجاوبه؟ ثم قال: حسبي الله! ثم فعل عن يساره مثل ذلك ثم نظر أمامه وقال: أتجاوبه؟ ثم قال: الحمد لله ,ثم رفع رأسه إلى القاضي وقال له: أما قولك -يرحمك الله- من أنت؟ فأنا عبد لله, لقوله تعالى : ( أن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) وأما قولك: لماذا خلقت؟ فكان الله كنزا لا يعرف فخلقني لمعرفته, قال تعالى: ( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) أي ليعرفون, كذا قال ابن عباس وغيره,وأما قولك: ما أراد الله بخلقي؟ فما أراد بي إلا كرامتي, قال تعالى: (ولقد كرما بني آدم) وأما قولك: أين ربك منك؟ فهو مني حيث أنا منه, لقوله تعالى: ( وهو معكم أينما كنتم).
فقال اخبرني كيف هو معك ومعنا ؟في قوله: (وهو معكم أينما كنتم) قال: هو معنا كيف ما كنا معه, فان كنا معه بالطاعة كان معنا بالعون والهدى إليه ,وإن كنا معه بالغفلة كان معنا بالمشيئة, وان كنا بالمعصية كان معنا بالمهلة, وان كنا بالتوبة كان معنا بالقبول, وان كنا بالترك كان معنا بالعقاب, قال صدقت, فأخبرني أين هو مني؟ فقال أخبرني أين أنت منه؟ أعلمك أين هو منك, قال صدقت يا علي فيما قلت.
ولكن اخبرني بمسألة ثانية, قال وما هي؟ قال لم ملت عن يمينك حين سألتك؟ قال -أعز الله الفقيه- إن المسألة التي سألتني عنها لم يكن عندي فيها جواب لأنني ما سئلت فيها قط ولا سمعتها فلما سألتني عنا لم يكن عندي ما أخبرك به فيها فسألت الملك الكريم الذي يكتب في اليمين فقلت له: أتجاوبه أنت؟ فقال لي: لا علم لي فقلت: حسبي الله وفوضت أمري إلى الله, فقال: وعن شمالك؟ فقال: كذلك, فقال: وأمامك؟ فقال: سألت قلبي فقال عن سره عن ربه ما أجبتك به فقلت الحمد لله شاكرا على الهداية ومقرا له بالعجز عن ادراك النهاية, فقال له: يا هذا أتكلمك الملائكة؟ فقال له: ويحك أما ترى رب الملائكة كلمني حين هداني لحجتي وكنت لا أعرفها, فقال له: يا هذا الآن قد صح عندي حمقك وثبت عندي كفرك وزندقتك.
فما تريد أن أفعل بك, وبأي قتلة تريد أن أقتلك؟ فقال له: وما الذي تريد أن تفعل بي وأنت قاضي القضاة أن كنت تقضي ولا يقضى عليك؟ فاقض بما شئت وأي فعل لك, فقال له: أنا القاضي المقتضى بما يقضى به أو ينقضي بما يقضى ولا يقضى عليه قال له: وما هو قال قوله تعالى: ( فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعلمون) فقال له: وما تريد أنت, اقض بما شئت الآن طبت وطابت نفسي على لقاء ربي فعن ذلك رد القاضي رأسه إلى المتوكل وقال له: يا أمير المؤمنين اترك هؤلاء فان كان هؤلاء زنادقة فليس على وجه الأرض مسلم! هولاء مصابيح الدين ودعائم الإسلام وهؤلاء المؤمنون حقا عباد الله المخلصون, فعند ذلك عطف الملك على الجنيد وقال: يا أبا القاسم هؤلاء الفقهاء ما جمعوا لك هذا المجلس العظيم واستعدوا لمناظرتك إلا ليقتلوك لو غلبوك! والآن أنت الغالب عليهم, وأنا آليت على نفسي إن أنت غلبتهم أن أمشى عليهم السيف فاما أن تعفو عنهم وإما أن يموتوا! فقال العياذ بالله يا سيدي أن يموت أحد منهم بسببي! عفا الله عنا وعنهم ولا أخذ عليهم في إنكارهم علينا لأنهم ما ساقهم لذلك إلا الجهل وقلة العلم بما طلبوا, عفا الله عنا وعنهم فانحل المجلس على سلام ولم يمت فيه أحد والحمد لله ثم عطف القاضي على النوري وقال له يا علي أعجبني حالك والله شهيد أني أحبك ......
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات