مع قره صو :
ثم ذهب إلى (سلانيك) مقر يهود الدونمة ومشتقاتهم من جمعية (الاتحاد والترقي) و (الماسونية) وسواهما ، والتقى عدداً من شخصيات (الاتحاد والترقي) الذين كانوا يطمعون في كسب النورسي العبقري إلى صفهم ، وكان ممن التقاهم : (عما نوئيل قره صو) رئيس المحفل الماسوني ، وعضو مجلس المبعوثان (أي النواب) العثماني ، وكان قره صو يطمع في النورسي ، ولكن المقابلة بينهما لم تطل ، لأن قره صو فر هارباً من اللقاء ، وهو يقول : كاد هذا الرجل العجيب – النورسي – يدخلني في الإسلام ، بحديثه. و (قره صو) هذا هو أول صهيوني ماسوني عمل على خلع السلطان عبدالحميد وإلغاء الخلافة.
شموخ الإيمان :
وفي هذه المرحلة اتهم فيمن اتهم بحادثة 31 مارت (13/4/1909) وسيق إلى المحاكمة ، ورأى في الساحة خمسة عشر رجلاً معلقين على أعواد المشانق ، ظناً من القضاة أن هذا المنظر سوف يرهبه ، قال له الحاكم العسكري خورشيد باشا : وأنت أيضاً تدعو إلى تطبيق الشريعة ؟ إن من يطالب بها يشنق هكذا (مشيراً بيده إلى المشنوقين).
فقام بديع الزمان سعيد النورسي وألقى على سمع المحكمة كلاماً رائعاً نقتطف منه ما يأتي : لو أن لي ألف روح لما ترددت أن أجعلها فداء لحقيقة واحدة من حقائق الإسلام ، فقد قلت : إنني طالب علم ، لذا فأنا أزن كل شيء بميزان الشريعة ، إنني لا أعترف إلا بملة الإسلام ، إنني أقول لكم وأنا واقف أمام البرزخ الذي تسمونه (السجن) في انتظار القطار الذي يمضي بي إلى الآخرة ، لا لتسمعوا أنتم وحدكم بل ليتناقله العالم كله : ألا لقد حان للسرائر أن تنكشف ، وتبدو من أعماق القلب ، فمن كان غير محرم فلا ينظر إليها.. إنني متهيء بشوق لقدومي للآخرة ، وأنا مستعد للذهاب مع هؤلاء الذي علقوا في المشانق.. تصوروا ذلك البدوي الذي سمع عن غرائب إستانبول ومحاسنها فاشتاق إليها ، إني مثله تماماً في شوقي إلى الآخرة والقدوم إليها ، إن نفيكم إياي إلى هناك لا يعتبر عقوبة ، إن كنتم تستطيعون فعاقبوني المعاقبة الوجدانية ، لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد والآن فإنها تعادي الحياة ، وإذا كانت هذه الحكومة هكذا : فليعش الجنون ، وليعش الموت ، وللظالمين فلتعش جهنم.
وفي جلسة واحدة فقط صدر حكم ببراءة بديع الزمان سعيد النورسي من تلك المحكمة الرهيبة التي شنقت العشرات.
المجاهد :
أسس (الاتحاد المحمدي) في سنة 1909 رداً على دعاة القومية الطورانية ، والوطنية الضيقة ، كجمعية الاتحاد والترقي ، وجمعية تركيا الفتاة.
انضم إلى (تشكيلات خاصة) وهي مؤسسة سياسية عسكرية أمنية سرية ، شكلت بأمر السلطان محمد رشاد قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى ، من أجل المحافظة على أراضي الدولة العثمانية ، ومحاربة أعدائها ، وكان قد انضم إلى هذه المؤسسة كثير من المفكرين والكتاب ، وكان النورسي من أنشط أعضاء قسم (الاتحاد الإسلامي) فيها ، وأصدر مع عدد من العلماء (فتوى الجهاد) التي تهيب بالمسلمين أن يهبوا للدفاع عن الخلافة.
وفي هذه المرحلة سافر إلى مدينة (وان) عام 1910 وبدأ يلقى دروسه ومحاضراته ، متجولاً بين القبائل والعشائر الكردية ، يعلمهم أمور دينهم ، ويرشدهم إلى الحق.
وفي سنة 1911 سافر إلى دمشق ، وألقى في المسجد الأموي خطبته الشهيرة باسم الخطبة الشامية التي وصف فيها أمراض الأمة الإسلامية ، ووسائل علاجها.
وفي سنة 1912 عين بديع الزمان قائداً لقوات الفدائيين الذين جاؤوا من شرقي الأناضول ، من الأكراد خاصة.
في الأسر :
وفي سنة 1916 تمكنت القوات الروسية من الدخول إلى مدينة (أرضروم) التركية، وقد تصدى النورسي وتلاميذه المتطوعون للقوات الروسية ، وخاضوا عدة معارك ضدها ، ثم جرح النورسي جرحاً بليغاً ، ونزف نزفاً شديداً كاد يودي بحياته ، الأمر الذي اضطر أحد تلاميذه إلى إعلام القوات الروسية بذلك ، فاقتادوه أسيراً ، وبقي في الأسر في (قوصطرما) سنتين أربعة أشهر ، ثم تمكن من الهرب من معسكرات الاعتقال ، إثر الثورة البلشفية في روسيا.
عزة المؤمن :
وذات يوم قدم هناك إلى المحكمة الحربية بتهمة إهانة القيصر والجيش الروسي. أما قصة ذلك فهي كما يأتي : كان خال القيصر القائد العام للجبهة الروسية (نيكولا نيكولافيج) يزور معسكر الأسرى فقام جميع الأسرى لأداء التحية ما عدا (سعيد النورسي)، لا حظ القائد العام ذلك ، فرجع ومر ثانية أمامه ، فلم يقم له كذلك ، وفي المرة الثالثة وقف أمامه وجرت المحاورة الظريفة الآتية بينهما بوساطة مترجم للقائد :
- الظاهر أنك لم تعرفني ؟
- بلى... لقد عرفتك ، إنك نيكولا نيكولافيج ، خال القيصر ، والقائد العام في جبهة القفقاس.
- إذن فلم تستهين بي ؟
- كلا ، إنني لم أستهن بأحد ، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
- وماذا تأمرك عقيدتك؟
- إنني عالم مسلم ، أحمل في قلبي إيماناً ، والذي يحمل في قلبه إيماناً هو أفضل من الذي لا إيمان له ، ولو أنني قمت لك لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي ومقدساتي ، لذلك فإنني لم أقم لك.
- إذن فإنك بإطلاقك علي صفة عدم الإيمان ، تكون قد أهنتني وأهنت جيشي وأمتي والقيصر كذلك ، فيجب تشكيل محكمة عسكرية للنظر في هذا الأمر.
أمام المحكمة :
تشكلت المحكمة العسكرية ، وقدم إليها سعيد النورسي بتهمة إهانة القيصر والأمة الروسية والجيش الروسي.
ويسود حزن في معسكر الأسرى ويلتف حوله الضباط الأسرى من الأتراك والألمان والنمساويين ملحين عليه القيام بالاعتذار للقائد الروسي وطلب العفو منه ، إلا أنه رفض ذلك بإصرار ، قائلاً لهم : "إنني أرغب في الرحيل إلى الآخرة ، والمثول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك فإنني بحاجة فقط إلى جواز سفر للآخرة، وأنا لا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني.
وتصدر المحكمة قرارها بالإعدام ، وفي يوم التنفيذ تحضر ثلة من الجنود على رأسها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام ، ويقوم سعيد النورسي من مكانه بابتهاج قائلاً للضابط الروسي : أرجو أن تسمح لي قليلاً لأؤدي واجبي الأخير. ثم يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين.
وهنا يأتي القائد العام ليقول له بعد فراغه من الصلاة : أرجو منك المعذرة ، كنت أظنك قد قمت بعملك قاصداً إهانتي ، ولكنني واثق الآن أنك كنت تنفذ ما تأمرك به عقيدتك وإيمانك ، لذا فقد أبطلت قرار المحكمة ، وإنني أهنئك على صلابتك في عقيدتك ، وأرجو المعذرة منك مرة أخرى.
يتبع بمشيئة الله