جملة من سيرته، أحواله و نسكه التي أدركه أصحابُه عليها:
كان-رضي الله عنه-زاهدًا متجردًا عن الدنيا و زخرفها، مخالفاً لنفسه و مجاهدًا لها، و تركه للأخف عليها، و متابعته لما يثقل عليها، إذ لا يثقل عليها إلاَّ ما كان حقًّا، و أسرع إجابةً و فتحًا-كما قال-رضي الله عنه- و إقباله على الحق، و إعراضه عن جملة الخلق، لا يبالي بـهم، سواءً مدحوه أو ذموه، و تمسكه بالفاقة و الإفتقار، و يثاره للذلة و الإحتقار، و حذره مما ألفه الناس من الجمع و الادخار، لا يترك عشاءه لغدائه، ولا من غذائه لعشائه،بل يأخذ قدر ما يقيم به بنيته و بنية عياله، و يخرج الباقي لعباد الله، و هذا مسلكٌ عظيمٌ لا يقدرُ عليه إلاَّ من أقدره الله.
قال الشيخ العلامة، العارف الكبير، أبو العبَّاس سيدي أحمد بن عجيبة الأنجري الحسني: مكث مولانا العربي على هذه الحالة الموصوفة خمسًا و عشرين سنةً، لا يترك من عشائه لغدائه، و لا غذائه لعشائه، بل حتى ما يكون في الصباح من دهن الفتيلة ]أي فتيلة المصباح الزيتي الذي كان يستعمل للإضاءة ليلاً[ ثقةً بالله، و اعتصامًا بالله، و كان تأتيه الفتوح من عند الله، و لا يأخذ منها إلاَّ قدر ضرورته و زوجه و أولاده منها، و هم جماعة كالطير في وكرها غدواً و أصيلاً، حتى أتاه الإذن من الله، فكان يأخذ بالله كما كان يترك لله، و صار يزيد بكل شيء و لا ينقص منه شيء.
كان-رضي الله عنه-آية في معرفة الله، و العمل بسنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- و الكرم، و الحلم، و الصبر، و التأني، و العفة، و الخشية، و الهيبة، و السكينة، و التؤدة، و التواضع، و الحياء، و الجود، و السخاء، و الزهد، و الورع، و الرحمة، و التوكل، و الشفقة، و القناعة، و الاكتفاء بعلم الله، و الأنس، و الإطمئنان بالله، و السكون إليه في جميع الأحوال، و العشق و الشوق، و العزم، و القريحة، و النية الصالحة، و المحبة، و الظن الحسن، و الصدق، و الهمة العالية، و سعة الصدر، و الأخلاق الكريمة، و المحاسن العظيمة، و الأحوال السُّنيَّة السَّنيَّة، و المقامات السمية، و المواهب اللدنية، و المواجيد الربَّانية، صاحب محوٍ و فناءٍ، و صحوٍ و بقاءٍ، و غيبةٍ في مولاه، و شهودٍ لما به تولاه، قد أُغرق في بحر الحقيقة، و أُعطي القوة و التمكين، و الرسوخ في المعرفة و اليقين، و سلك من السنة منهاجًا قويمًا، و طريقًا مستقيمًا، و شرب من الخمرة الآلهية صفوًا، وورد من منهلها الأروى، فقويت أنواره، و فاضت في الآفاقِ بيناته و أسراه، وسقى الجمَّ الغفير من شرابه كؤوساً، و ملأ قلوبهم و أرواحهم أقمارًا و شموسًا، فتوالت بذلك إرادته، و دامت لديهم مناولته، و مُـدُّوا منها على الأبد بمددٍ جسيمٍ؛ و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
و كل ما ذكرناه مما ليس شأنه أن تقام عليه البراهين و البينات، لا سيما عند أهل الاعتقادات الكاملة، و النيات الصالحة، على أن مآثر هذا الجليل قد بلغت مبلغ التواتر القطعي، خصوصًا عند أهل هذا الشأن العظيم.
و حسب كل من لم يصدق بما جئنا به و لم يصل إلى مقامهم أن يظن الظن الحسن في عباد الله الصالحين، و أن يسلم المسألة لأهلها، حتى يدخل في حيز ”من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه“ فينتفع هكذا بالتسليم و كما ينتفع بالإيمان بالغيب، و أما من أراد نفيها، دخل حتما في قوله تعالى:“بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحيطُوا بِعلمِـهِ“.
وفاته رضي الله عنه:
توفي مولانا-رضي الله عنه-ليلة الثلاثاء، 22 صفر الخير، 1239هجرية الموافق لسنة 1825ميلادية؛ فقد توفي عن سن عالية، نحو 80 سنة. غسلته زوجه الصدِّيقة، الصائمة القائمة، السيدة مريم بنت الشيخ ابن خدة الحسناوي. و صلى عليه الأستاذ الأجل عبد الرحمن من حفدة الشيخ الكبير أبي البقاء عبد الوارث اليصلوتي العثماني، و كل ذلك بإيصائه المرة بعد المرة. دُفن-رضي الله عنه-بزاويته ببني زروال بحبل الزبيب، و هي على مسيرة يومين من مدينة فاس المحروسة بالله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن موقع التصوف الأسلامي